{ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ }
قوله عز وجل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ...}.
قاف: فيها المعنى الذى أقسم به [/ب] ذكر أنه قُضى والله كما قيل فى حُمَّ: قُضى والله، وحُمَّ والله: أى قضى.
ويقال: إن (قاف) جبل محيط بالأرض، فإن يكن كذلك فكأنه فى موضع رفع، أى هو (قافٌ والله)، وكان [ينبغى] لرفعه أن يظهر لأنه اسم وليس بهجاء، فلعل القاف وحدها ذكرت من اسمه كما قال الشاعر:
قلنا لها: قفى، فقالت: قافْ.
ذكرت القاف أرادت القاف من الوقوف، أى: إنى واقفة.
{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ }
وقوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً...}.

كلام لم يظهر قبله ما يكون هذا جواباً له، ولكن معناه مضمر، إنما كان ـ والله ـ أعلم: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} لتبعثن. بعد الموت، فقالوا: أنبعث إذا كنا تراباً؟ فجحدوا البعث ثم قالوا: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ...}. جحدوه أصلا [و] قوله: (بعيد) كما تقول للرجل يخطىء فى المسألة: لقد ذهبت مذهباً بعيداً من الصواب: أى أخطأت.
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ }
وقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ...} ما تأكل منهم.
وقوله: {فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ...}.
فى ضلال.
وقوله: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ...}.
ليس فيها خلل ولا صدع.
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ }
وقوله: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ...}.
والحب هو الحصيد، وهو مما أضيف إلى نفسه مثل قوله: {إِنَّ هَذا لَهُو حَقُّ الْيَقِين}، ومثله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ...}.
والحبل هو الوريد بعينه أضيف إلى نفسه لاختلاف لفظ اسميه، والوريد: عرق بين الحلقوم والعلباوين.
{ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ }
وقوله: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ...}.
طوال، يقال: قد بسق طولا، فهن طوال النخل.
وقوله: {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ...}.
يعنى: الكفُرَّى ما كان فى أكمامه وهو نضيد، أى منضود بعضه، فوق بعض، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد.
{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }

وقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ...}.
يقول: كيف نعيا عندهم بالبعث ولم نعى بخلقهم أولا؟ ثم قال: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}، أى هم فى ضلال وشك.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }
وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ...}.
الهاء لما، وقد يكون ما توسوس أن تجعل الهاء للرجل الذى توسوس به ـ تريد ـ توسوس إليه وتحدثه.
{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ }
وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ...}.
يقال: قعيد، ولم يقل: قعيدان. حدثنا الفراء قال: وحدثنى حبان بن على عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال: قعيد عن اليمين وعن الشمال يريد ـ قُعود، فجعل القعيد جمعا، كما تجعل الرسول للقوم والاثنين. قال الله تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِين} لموسى وأخيه، وقال الشاعر:
ألِكْنى إليها، وخيرُ الرسو * لِ أعلَمُهم بنواحِى الْخَبَرْ
فجعل الرسول للجمع، فهذا وجه، وإن شئت جعلت القعيد واحداً اكتفى به من صاحبه، كما قال الشاعر:
نَحْنُ بما عِندنا، وأنت بما * عندك راضٍ، والرأىُ مختلِفُ
ومثله قول الفرزدق:
إِنِّى ضَمِنت لمن أتانى ما جَنَى * وأبَى، وَكان وكنت غير غَدُورِ
وَلم يقل: غدورين.
{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }

وقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ...} وفى قراءة عبدالله: سكرة الحق بالموت، فإن شئت أردت (بالحق) أنه الله عز وجل، وإن شئت جعلت السكرة هى الموت، أضفتها إلى نفسها كأنك قلت: جاءت السكرة الحقُّ بالموت، وقوله: {سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} يقول: بالحق الذى قد كان غير متبين لهم من أمر الآخرة، ويكون الحق هو الموت، أى جاءت سكرة الموت بحقيقة الموت.
{ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
وقوله: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ...}.
يقول: قد كنت تُكذب، فأنت اليوم عالم نافذ البصر، والبصر ها هنا: هو العلم ليس بالعين.
{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ }
وقوله: {هَاذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ...}.
رفعتَ العتيد على أن جعلته خبرا صلته لما، وإن شئت جعلته مستأنفا على مثل قوله: {هَذَا بَعْلِى شَيْخٌ}. ولو كان نصبا كان صوابا؛ لأن (هذا، وما) ـ معرفتان، فيقطع العتيد منهما.
{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ }
[/ا] وقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ...}.
العرب تأمر الواحد والقوم بما يؤمر به الاثنان، فيقولون للرجل: قوما عنا، وسمعت بعضهم: ويحك! ارحلاها وازجرها، وأنشدنى بعضهم:
فقلت لصاحبى لا تحبسانا * بنزع أصوله، واجتزَّ شيحا
قال: ويروى: واجدزّ يريد: واجتز، قال: وأنشدنى أبو ثروان:
وإن تزجرانى يا ابن عفان أنزجر * وإن تدعانى أَحْمِ عرضاً ممنَّعاً
ونرى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه فى إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرَّفقة، أدنى ما يكونون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ألا ترى الشعراء أكثر شىء، قيلا: يا صاحبىّ، يا خليلى، فقال امرؤ القيس:
خليلىّ، مرّا بِى على أم جندب * نُقضِّى لُبانات الفؤاد المعذب
ثم قال:

ألَمْ تَرَ أنى كلما جئت طارقا * وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
فقال: ألم تر، فرجع إلى الواحد، وأول كلامه اثنان، قال: وأنشدنى آخر:
خليلىّ قوما فى عَطالة فانظرا * أناراً ترى من نحو بابَيْن أو برقا
وبعضهم: أنارا نرى.
وقوله: {مَا أَطْغَيْتُهُ} يقوله الملَك الذى كان يكتب السيئات للكافر، وذلك أن الكافر قال: كان يعجلنى عن التوبة، فقال: ما أطغيته يارب، ولكن كان ضالا.
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }
قال الله تبارك وتعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ...}. أى: ما يُكْذَب عندى لعلمه عز وجل بغيب ذلك.
{ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ }
وقوله: {هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ...} {مَّنْ خَشِيَ...}.
إن شئت جعلت (مَن) خفضا تابعة لقوله: (لكلّ)، وإن شئت استأنفتها فكانت رفعا يراد بها الجزاء. من خشى الرحمن بالغيب قيل له: ادخل الجنة، و (ادْخُلوها) جواب للجزاء أضمرتَ قبله القول وجعلته فعلاً للجميع؛ لأن مَن تكون فى مذهب الجميع.
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ }
وقوله: {فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ...}.
قراءة القراء يقول: خرّقوا البلاد فساروا فيها، فهل كان لهم من الموت من محيص؟ أضمرت كان ههنا كما قال: {وَكَأَيِّنْ مِّنْ قَرْيَةٍ هي أَشَدُّ قُوّةً مِّنْ قَرْيَتِكَ الَّتى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُم}، والمعنى: فلم يكن لهم ناصر عند إهلاكهم. ومن قرأ: (فَنقِّبوا) فى البلاد، فكسر القاف فإنه كالوعيد. أى: اذهبوا فى البلاد فجيئوا واذهبوا.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ...}.
يقول: لمن كان له عقل، وهذا جائز فى العربية أن تقول: مالك قلب وما قلبك معك، وأين ذهب قلبك؟ تريد العقل لكل ذلك.
وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ...}.
يقول: أو ألقى سمعه إلى كتاب الله وهو شهيد، أى شاهد ليس بغائب.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }
وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ...}.
يقول: من إعياء، وذلك أن يهود أهل المدينة قالوا: ابتدأ خلق السماوات والأرض يوم لأحد، وفرغ يوم الجمعة، فاستراح يوم السبت، فأنزل الله: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} إكذابا لقولهم، وقرأها أبو عبدالرحمن السلمى: من لَغوب بفتح اللام وهى شاذة.
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ }
وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ...}.
وإِدِبارَ. من قرأ: وأدبار جمعه على دُبُر وأدبار، وهما الركعتان بعد المغرب، جاء ذلك عن علي ابن أبي طالب أنه قال، [/ب] وأدبار السجود: الركعتان بعد المغرب، {وإِدْبارَ النُّجومِ}. الركعتان (قبل الفجر) وكان عاصم يفتح هذه التى فى قاف، وبكسر التى فى الطور، وتكسران جميعاً، وتنصبان جميعاً جائزان.
{ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ }
وقوله: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ...}.
يقال: إن جبريل عليه السلام يأتى بيت المقدس فينادى بالحشر، فذلك قوله: {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ}.
{ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ }

وقوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً...}.
إلى المحشر وتُشَقق، والمعنى واحد مثل: مات الرجل وأميت.
{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }
وقوله: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ...}.
يقول: لست عليهم بمسلَّط، جعل الجبار فى موضع السلطان من الجَبْريّة، قال أنشدنى المفضل:
ويوم الحَزن إذ حشَدَت مَعدٌّ * وكان الناسُ إلا نحن دينا
عصينا عزمةَ الجبار حتى * صبحنا الجوفَ ألفا مُعْلمينا
أراد بالجبار: المنذر لولايته.
وقال الكلبى بإسناده: لستَ عَلَيْهِمْ بجَبّار يقول: لم تبعث لتجبُرَهم على الإسلام والهدى؛ إنما بعثت مذكَّرا فذكّر، وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم.
والعرب لا تقول: فعّال من أفعلت، لا يقولون: هذا خَرّاج ولا دَخّال، يريدون مُدْخِل ولا مُخرِج من أدخلت وأخرجت، إنما يقولون: دخال من دخلت، وفعّال من فعلت: وقد قالت العرب: درّاك من أدركت، وهو شاذ، فإن حملت الجبار على هذا المعنى فهو وجه.
وقد سمعت بعض العرب يقول: جبره على الأمر يريد: أجبره، فالجبار من هذه اللغة صحيح يراد به: يقهرهم ويجبرهم.