في حديث
عظيم من جوامع الكلم , بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مَعْلما من معالم
النجاة , وأمارة من أمارات حسن الإسلام , ليزن العبد بها نفسه , ويعرف مدى
قربه أو بعده عن الطريق المستقيم , والحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه ).
فهذا الحديث قد جمع معانٍ عظيمة لا غنى للمسلم عن فهمها وامتثالها ، وهو
أصل عظيم من أصول الأدب , ولذا عدَّه بعض أهل العلم ثلث الإسلام أو ربعه ,
وذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الورع كله في
هذا الحديث , فهو يضع للعبد قاعدة عظيمة فيما يأتي وما يدع ، وفيه تنبيه
على الركن الأول في تزكية النفس وتربيتها ، وهو جانب التخلية بترك ما لا
يعني ، الذي يلزم منه الركن الثاني وهو التحلية بالانشغال بما يعني .
الناس قسمان :
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن ترك ما لا يعني من
أسباب حسن إسلام المرء , وهذا يعني أن الناس ينقسمون في الإسلام إلى قسمين
كما دل عليه الحديث : فمنهم المحسن في إسلامه ومنهم المسيء , فمن قام
بالإسلام ظاهراً وباطناً فهو المحسن الذي قال الله فيه : { ومن أحسن دينا
ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا } ( النساء 125) , ومن
لم يقم به ظاهرا وباطنا فهو المسيء , ومن علامات حسن الإسلام انشغالُ
المرء بما يعنيه وتركُه ما لا يعنيه , ومفهوم الحديث : أن انشغال الإنسان
بما لا يعنيه من علامات سوء إسلامه .
ومما يدل على معنى الحديث , أن الله وصف الله المؤمنين بالإعراض عن اللغو
في غير ما آية من كتابه قال سبحانه : {والذين هم عن اللغو معرضون } (
المؤمنون 3) . واللغو هو الباطل , ويشمل الشرك والمعاصي وكل ما لا فائدة
فيه من الأقوال والأفعال والاهتمامات , ومن اللغو الاشتغال بما لا يعني من
أمور الناس .
وقد جاءت الأحاديث بفضل منزلة حسن الإسلام ، ومن ذلك ماجاء في صحيح مسلم عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أحسن
أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل
سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله ) .
فقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما لا يعنيه ) أي : ما لا يهمه ولا يفيده في
دينه ولا دنياه , ويدخل في الأمور التي لا تعني المحرمات والمشتبهات
والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها الإنسان .
والضابط في معرفة ما يعني الإنسان مما لا يعنيه هو الشرع , وليس الهوى ,
فإن كثيرا من الناس قد يحلو له أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,
بدعوى أن ذلك من التدخل في خصوصيات الآخرين , وأن ذلك مما لا يعني الإنسان ,
وقد يستدل بهذا الحديث على فهمه السيئ , وهذا من الخطأ واختلاط المفاهيم
في هذه القضية , روى أبو داود أن أبا بكر رضي الله عنه قام في الناس خطيبا ,
فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية
وتضعونها على غير مواضعها {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من
ضل إذا اهتديتم } ( المائدة 105) , وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم
يقول : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله
بعقاب )، وفي رواية: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما
من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك
أن يعمهم الله منه بعقاب ) , ومما يعني الإنسان أيضا شؤون المسلمين
وقضاياهم , ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .
فهذا الحديث معيار وعلامة يُعرف بها حسن الإسلام من ضده ، وأسباب كل منهما ,
وتزداد الحاجة لفهم هذا الحديث والعمل بمقتضاه , في زمن تزاحمت فيه
الواجبات ، واختلطت فيه الأولويات ، فكانت الخطوة الأولى , هي تركيز
الاهتمام فيما ينفع ، وترك كل ما لا يعني ، وهو ملحظ تربوي مهم , ينبغي أن
يراعيه العبد في تربية نفسه والآخرين.