وقفة فكرية مع قمة الرياض ـ ماهر الجعبري
– January 25, 2013
وقفة فكرية مع قمة الرياض ـ ماهر الجعبري
اختتم الحكام العرب قمتهم التنموية في الرياض، تجاذبوا فيها أطراف الحديث كالعادة، ثم عاد كل منهم الى قصره، بعد أن مارسوا التضليل السياسي والفكري وسطروا الوعود الباهتة لاستمالة الشباب وصرفهم عن المسار الثوري، وقد اتخذوا لقمتهم عنوانا تنمويا ، بينما ظلوا يتحدثون عن الرأسمالية الغربية وآلياتها، ولم يشر أي منهم بأية اشارة لهوية الأمة الثقافية طيلة مداولات هذا المؤتمر، وهو ما يدفع لوقفة فكرية مع مفهوم التنمية وتشابكاته المبدئية والشرعية والسياسية.
لا شك أن المتابع السياسي والناشط المجتمعي يلاحظ تداول مصطلحات عديدة في هذا الشأن مثل التنمية الاقتصادية ومنها التنمية الصناعية والتنمية الادارية، والتنمية الاجتماعية والتنمية السياسية، وهي مصطلحات يتداولها الاعلام والكتّاب والساسة، وهي قضايا تشغل المجتمعات والدول، وهي مسائل تحتل عقول الباحثين والمفكرين والمخططين والسياسيين المصلحين منهم والمخرّبين.
وهي تلتقي عند مصطلح التنمية، فهل من موقف مبدئي اسلامي من التنمية من حيث الرسم والاسم أم من حيث المعنى والمبنى؟ وهل من موقف سياسي متحرر من الأسر ضمن حدود الثقافة الغربية المهيمنة على الاعلام والحكام؟
ولا تتطرق هذه المقالة لتناول كافة هذه الأفرع التنموية بالسرد والتبيان والعرض، اذ الغاية وضع أساس لمفهوم التنمية ومعيار للحكم على تلك التفريعات، وذلك ضمن ثلاثة تفريعات
أولا مفهوم التنمية
يخضع مصطلح التنمية لجدل بسيط، وهو يستخدم كترجمة عن الانجليزية لكلمة تأتي بمعنى التطوير Development . والتنمية في اللغة العربية هي الزيادة والتحسين والتوسع. وتعتبر ــ في أدبياتها الحديثة ــ كتطور أفرزته السياسات الدولية في مجال تطور الدول وارتقائها. وهي ترتبط بالمجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والادارية.
وتُعرف التنمية، عند بعض الكتّاب، على أنها توحيد جهود جميع المواطنين مع الجهود الحكومية لتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للجماهير، وربطهم بظروف مجتمعهم ونمط الحياة فيه، وتمكينهم من المساهمة في تحقيق التقدم والرقى لمجتمعهم.
وهنالك مصطلح التنمية المستدامة الذي يركّز على ديمومة التطور والبقاء، كما يعرفها برنامج الأمم المتحدة الانمائي في تقريره لسنة 1992 بأنها عملية توضع في اطارها السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية والزراعية والصناعية وسياسات الطاقة على نحو يفضي الى تنمية لها أثر باق من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والبيئية .
ويتحدث المنظّرون في هذا المجال عن أربعة عناصر للتنمية هي الانتاجية والعدالة الاجتماعية والاستدامة والتمكين.
ثانيا ــ الموقف العام من التنمية
من الواضح أن مفاهيم التنمية المستدامة تختلط فيها الأدوات المادية والوسائل العلمية العالمية مثل الانتاجية مع التوجهات الفكرية ووجهات النظر الخاصة في الحياة مثل العدالة . وهنا تتشابك النظرات حول التنمية، وتتداخل الأوجه المرتبطة بها؛ ما بين جوانب ذات أوجه عامة للبشر وأخرى خاصة مرتبطة بثقافاتهم، وبالتالي فان التنمية والاقتصادية منها على وجه الخصوص ، تتضمن شقين هما
1 جوانب مدنية مادية أساسية ومشتركة بين الناس، ولا علاقة لها بمبادئهم مثل كيفية ادارة الانتاج وآلاته .
2 جوانب حضارية ثقافية ومعنوية ترتبط بالمبادئ التي تسيّر المجتمعات حسب قناعاتهم مثل كيفية تحقيق العدالة .
ولا شك أن المعاني العامة للتنمية المادية في المجالات الاقتصادية والتجارية والزراعية والصناعية والطاقة وما يرتبط بها من تحسين الظروف وزيادة الانتاجية وديمومة المصادر من أجل تحقيق الرفاهية والسعي لحياة فضلى للناس هي معان مقبولة عند جميع البشر ومشتركة فيما بينهم، وهي ترتبط بالعلوم التجريبية وما يلحق بها من معارف موضوعية أكثر من ارتباطها بالمبادئ والأفكار، ولذلك فهي عامة للناس وليست خاصة بثقافات ووجهات نظر الناس.
ولذلك لا حرج في الحديث المشترك حولها، وليس ثمة من حدود أمام التعلّم من الآخر حول سبلها، والحوار والتعاون حول تبادل مهاراتها وأصولها والخبرات المتعلّقة بها.
أما ما يتعلق بالجوانب الحضارية والثقافات فلا يمكن النظر اليها الا من الزاوية الخاصة بكل مجتمع والتي تشكل مجمل قناعاتهم، وهذه الجوانب ليست عرضة للتداخل المعرفي ولا تَقبَل التمازج ولا فتح المجال للتأثّر الثقافي، لأن كل درجة من التأثر فيها تعني تذويبا للخصوصية الثقافية للمجتمع، ولا يمكن استقاء هذه الجوانب الفكرية من الآخر مع الابقاء والمحافظة على الخصوصية الثقافية للأمم.
واستنادا لعمومية المعنى العام المقبول للتنمية الجانب العلمي العام وغير الحضاري ، لا بد من تقرير حقيقة أن السعي لاحداث التنمية هو مطلب انساني ملح للناس عموما، وهو نابع من طبيعة الانسان ابتداء قبل مفاهيمه.
أما هوية المجتمع الثقافية أو وجهة النظر الخاصة به ثقافته وحضارته فليست الأساس في تسيير النشاطات التنموية، ولا في تحديد أساليبها المادية ووسائلها العلمية، وان كانت تلك الهوية الثقافية عنصرا مهما في تحفيز المجتمع نحو التنمية وفي تحديد طريقة تحقيق التنمية.
ومن هنا، فان الاندفاع نحو التنمية ليس خاصا بمبدأ دون آخر، ولا بأمة دون غيرها، بل ان تحقيق التنمية بمعنى الزيادة والتحسين في المصادر والموارد وديمومتها هي مسألة عالمية لكل البشر، المسلمين منهم وغير المسلمين.
ولذلك فلا تعارض بين الدافع العام للتنمية وبين الدافع الاسلامي، بل ان التنمية يمكن أن تندرج من ناحية التأصيل الفكري في ظلال قول الله تعالى في سورة البقرة وَاِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ اِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، وقد ذكر الطبري في تفسيره أن من معاني خليفة في هذه الآية سَاكِنًا وَعَامِرًا يَسْكُنهَا وَيَعْمُرهَا . فعمارة الأرض تتضمن الافادة من مصادرها وتسخيرها لخدمة الانسان وتنميتها، وبالتالي استدامتها.
ولا حاجة هنا للتفصيل في مشروعية التنمية المادية ، اذ هي ليست محل خلاف في أدبيات الاسلام السياسي ، بل ان تحقيق الرفاهية في المجتمع هدف مشروع ومتضمن في العمل لتحقيق النهضة، وكل ذلك لا تعارض فيه.
ثالثا ــ الموقف التفصيلي من تفريعات التنمية
لا شك أن الكيفية العامة أو النهج الأساس لاحداث التنمية أو طريقة العمل لتحقيقها هي مسألة شرعية وتشريعية، تتعلق بوجهة النظر عن الحياة وتستند لمفاهيم الانسان وهنا تبرز ثقافة الانسان كمحدد رئيس، أمام التساؤلات التنموية من مثل
هل تصح التنمية الصناعية عبر القروض الربوية؟
هل تصح تنمية الثروة الزراعية من خلال استغلال ناتج العنب في صناعة الخمر؟
هل تقبل الدولة فتح المجال أمام المؤسسات الأجنبية للتأثير على المجتمع من خلال برامج التنمية المجتمعية ؟
هل يقبل المجتمع فتح الباب للجهات الدولية ولبرامجها في مجال التنمية السياسية وهي تصب في الغالب في تجنيد الرجال للعمالة للدول الأجنبية ولتحقيق مصالحها؟
هل يرفض المجتمع الاسلامي أساليب التنمية الادارية الوافدة من الغرب لأنه يخوض صراعا حضاريا معه؟
هل هنالك فرق بين الرجل والمرأة في التكليف حتى نخصص تنمية اجتماعية خاصة بالمرأة؟
اذن، أمام مثل هذه التساؤلات التنموية يبرز الموقف الثقافي، وتظهر أهمية استقراء تفاصيل الأفرع التنموية التي استُعملت بها هذه الكلمة، وهنا تبرز أهمية استحضار معيار التمييز بين الحضارة والمدنية في تحديد الموقف من هذه الأفرع التنموية ونشاطاتها.
وهذه الأسئلة تشير الى أنه لا يمكن رفض تفاصيل التنمية بالجملة ولا قبولها بالجملة، بل ان تحديد الموقف من كل تفريعة ومن كل نشاط تنموي خاضع لعملية تنخيل حسب معايير الفصل بين ما هو ثقافي حضاري خاص بالمجتمع وبين ما هو علمي مدني عالمي للناس ، بحيث ينفتح المسلم على ما يصح له، ويسد الباب أمام أي تأثر بما لا يصح له.
لا شك أن مؤتمر الحكام لم يكن مؤتمرا فكريا، ولكن السياسات العامة التي يتحدثون عنها، هي في مجملها من الجوانب الحضارية التي يجب أن تُطبع بدمغة الهوية الثقافية للأمة، وهي هوية كانت وظلت غائبة عن مؤتمرات الحكام، وستظل كذلك حتى تكتمل الثورة ويزهر الربيع العربي موقفا حضاريا خاصا بالأمة، ولا يكون ذلك الا مع التحرر الثقافي والسياسي والاقتصادي من كل ذيول الثقافة الغربية.
كاتب وسياسي فلسطيني
AZP07