في آخر سنة ست خروج الرسول:قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-بالمدينة شهر رمضان وشوال، وخرج في ذي القعدة معتمراً، لا يُريد حرباً.
نميلة على المدينة:
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.
استنفار الرسول الناس:
قال ابن إسحاق:واستنفر العرب ومن حولهم من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه،وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذاً البيت ومعظماً له(1).
عدة الرجال:
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً، وساق معه الهدي سبعين بدنة وكان الناس سبع مئة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر.
وكان جابر بن عبد الله، فيما بلغني، يقول كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مئة.(2)
قال الزهيري: وخرج رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، حتى إذا كان بعَسْفَان لقيه بشر بن سفيان الكعبي–قال ابن هشام: ويقال بسر– فقال: يا رسول الله هذه قريش، قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل(3)، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى(4) يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم(5) قال: فقال رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يُظهره الله أو تنفرد هذه السالفة(6))، ثم قال: "من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها"؟(7)
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر: أن رجلاً ممن أسلم قال: أنا يا رسول الله، قال: فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل (8)، وبين شعاب، فلما خرجوا منه، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - للناس: "قولوا نستغفر الله ونتوب إليه"، فقالوا ذلك، فقال: "والله إنها للحطة(9) التي عرضت على بني إسرائيل. فلم يقولولها"(10).
قال ابن شهاب: فأمر رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-فقال: (اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش، في طريق تخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة، قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة(11)الجيش قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش، وخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته فقال الناس: خلأت الناقة، قال: "ما خلأت وماهو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها". ثم قال للناس: "انزلوا"؛ قيل له: يا رسول الله: ما بالوادي ماء ننزل عليه، فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب. فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن(12).
قال الزهري في حديثه: فلما اطمأن رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي، في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه: ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أن لم يأت يريد حرباً، وإنما جاء زائراً للبيت، ومعظماً لحرمته، ثم قال لهم نحواً مما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال، وإنما جاء زائراً هذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم(13) وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالاً، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.
قال: ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف، أخا بني عامر بن لُؤي، فلما رآه رسول الله مقبلاً قال: هذا رجل غادر، فلما انتهى إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وكلمه، قال له رسول الله نحواً مما قال لبديل وأصحابه؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-.
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-قال: (إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه). رواه أحمد(4/324)، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائد، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إعظاماً لما أرى، فقال لهم ذلك. قال: فقالوا له: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك(14).
قال الزهري في حديثه: ثم بعثوا إلى رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-عروة بن مسعود الثقفي، فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وإني ولد-وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس- وقد سمعت بالذي نابكم، جمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي؛ قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد، أجمعت أوباش الناس، ثم جئت بهم إلأ بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل. قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً. وايم الله، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً. قال وأبو بكر الصديق خلف رسول الله قاعد، فقال: امصص يظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد ؟ قال: هذا بان أبي قحافة، قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها، قال: جعل يتناول لحية رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-وهو يكلمه. قال: والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله، في الحديد. قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قبل أن لا تصل إليك، قال: فيقول عروة: من هذا يا محمد؟ قال، هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، قال: أي غدر، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس.
قال بن هشام: أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك، من ثقيف، فتهايج الحيان من ثقيف: بنو مالك رهط المقتولين، والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية، وأصلح ذلك الأمر.
قال ابن إسحاق: قال الزهيري، فكلمه رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-بنحو مما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً.
فقام من عند رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا بصق بصاقاً إلا ابتدروه. ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، إن قد جئت كسرى في ملكه. وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً، فروا رأيكم(15).
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً، فأخذوا أخذاً، فأتي بهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بالحجارة والنبل.
ثم دعاء عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي. وليس بمكة من عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان فدعا رسول الله عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنه إنما جاء زائراً لهذا البيت، ومعظماً لحرمته.
قال ابن إسحاق: فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل.(16)
والحمد لله رب العالمين.
.................. 1 - تاريخ الطبري 2/ 620.
2 - سيرة ابن هشام ( 3/ 255-256)
3 - استعار العوذ المطافيل للنساء مع أولادهن. والعوذ هي الإبل حديثة النتاج. والمطافيل التي معها أولادها.
4 - ذو طوى: موضع قرب مكة.
5 - كراع الغميم: موضع بين مكة والمدينة.
6 - السالفة: صفحة العنق.
7 - رواه أحمد (4/323), والطبري في تاريخه 2/ 622، 623.
8 - الأجرل: كثير الحجارة.
9 - وهو قوله تعالى: (( وقولوا حطة نغفر لكم ذنوبكم )) ومعناها الاستغفار من الذنوب بقولهم اللهم حط عنا ذنوبنا.
10 - تاريخ الطبري 2/ 624 " بالري".
11 - القترة: الغبار.
12 - العطن: مبرك الإبل حول الماء. والخبر في تاريخ الطبري 2/ 623- 624.وروى البخاري قريباَ من هذا، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ، رقم(2581)
13 - جبهوهم: واجهوهم بما يكرهون.
14 - تاريخ الطبري 2/ 628.
15 - انظر تاريخ الطبري 2/ 627، ونهاية الأرب 17/ 226. وتاريخ الإسلام ( المغازي).
16 - تاريخ الطبري 2/ 631، 632.