" مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)" ( صدق الله العظيم )
لم يكن المشركون من قريش قد أفاقوا من صدمة إسلام عمر بن الخطاب حين عاد وافداهم إلى النجاشي يحملان إلى مكة صدمة الخيبة وفشل المسعى . فهل لم يبق إلا الحرب ؟
لقد رفض المصطفى كل ما عرضوه عليه من مقترحات ليكف عن دعوته , وأبى أن يساوموه على دينه وكذلك فشلت كل المفاوضات مع أبي طالب . ليكف عنهم ابن أخيه أو يخلي بينهم وبينه , والإسلام يفشو في القبائل . وزعامة قريش تهتز وتترنح وتوشك أن تفقد سيطرتها على الموقف وقد اعتز الإسلام بحمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب ومثلهما في الرجال قليل .
وهذا النجاشي يفتح بلاده لمن يهاجر من المسلمين , ويؤمن كل من يلجأ إليه منهم , ويأبى أن يمسهم أذى في جواره .
وبدأت قريش تتأهب لجولة حاسمة , ولمح أبو طالب نذر الشر فدعا عشيرته الأقربين إلى منع محمد صلى اللى عليه وسلم . والقيام دونه فأجابوه إلا أبا لهب عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم .
لكن قريشا وقد عيل صبرها من صبر المسلمين كرهت أن تخوض حربا مسلحة مع آل عبد المطلب وبني هاشم وهم من صميمها . واستقر الرأي بعد طول مداولات على أن تفرض عليهم حصارا اقتصاديا واجتماعيا لا يرحم . ص 97
واجتمع زعماء قريش فائتمروا فيما بينهم على مقاطعة بني هاشم : " لا يصهرون إليهم ولا يبيعونهم شيئا ولا يبتاعون منهم " وسجلوا حلف التعاقد في صحيفة علقوها في جوف الكعبة توثيقا لحرمتها وتوكيدا على أنفسهم في التزامها (1) .
وأقاموا على ذلك الحلف المشئوم زمنا . سنتين أو ثلاثا , لقي فيها المسلمون والهاشميون من جهد الحصار ما لا يحتمل , وحيل بينهم , وقد انحازوا إلى شعب أبي طالب ـ وبين الطعام والشراب يشترونه من التجار الوافدين على أسواق مكة , وقد يأتي أحد المنحازين إلى الشعب سوق مكة يلتمس قوتا يشتريه لعياله , فيقوم أبو لهب ويصيح بالتجار : " غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا , وقد علمتم ما لي ووفاء ذمتي " . فيزيد التجار ثمن السلعة أضعافا مضاعفة , ويرجع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى صبيتهم بالشعب وليس في أيديهم طعام , ويرجع التجار إلى أبي لهب فيفيهم ثمن ما غالوا فيه على المحاصرين فلم يدركوه . وبلغ منهم الجوع وجهد الحصار مبلغا يصوره قول " سعد بن أبي وقاص الزهري " رضي الله عنه بعد محنة الحصار بسنين " " لقد جعت حتى إني وطئت ذات ليلة على شئ رطب فوضعته في فمي وبلعته , وما أدري ما هو حتى الآن " وكانت التمرة الواحدة ربما وقعت لاثنين منهم يقتسمانها فيكون أحسنهما حظا من وقعت نواة التمرة في قسمه يلوكها بقية يومه .
وإنما كان طعامهم الخبط وورق السمر . وما قد يأتيهم به سرا بعض ذوي رحمهم , بدافع من المروءة والنجدة , مستخفيا به من طواغيت قريش الساهرين على إحكام الحصار وإنفاذ وثيقة المقاطعة .
روى ابن إسحاق في " السيرة النبوية " والطبري في " تاريخه " أن أبا جهل بن هشام لقي " حكيم بن حزام بن خويلد اِلأسدي " معه غلام يحمل قمحا . يريد به عمته " خديجة بنت خويلد " مع زوجها المصطفى صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب , فتعلق أبو جهل بحكيم وقال له :
- أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة . ولمحهما " أبو البخترى بن هاشم الأسدي " فجاء يسأل أبا جهل : مالك وله ؟
.................... ....
(1) السيرة النبوية لابن هشام : 1/ 379 وتاريخ الطبري : 2/ 225 . ص 98
قال : يحمل الطعام إلى بني هاشم . فما راعه إلا أن قال أبو البختري :
" وما في هذا ؟ طعام كان لعمته عنده , بعثت إليه فيه , أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل " فرفض أبو جهل أن يستجيب له , وتشادا فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه به فشجه , ووطئه وطئا شديدا . وحمزة بن عبد المطلب يرى ذلك من قرب , ويتأهب للبطش بأبي جهل . وهم يكرهون مع هذا أن يبلغ خبر ذلك ومثله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالشعب . ثم كان لليل الحصار آخر:
اهتزت ضمائر نفر من قريش فأنكروا الحلف المشئوم الذي تورطوا في التعاقد عليه منفعلين بعاطفة الجماعة وغريزة القطيع وقد صبروا عليه طويلا مكرهين حتى بلغ ذروته القاسية في مثل ما كان من أبي جهل بن هشام مع حكيم بن حزام .
وكان أول من تكلم في الحلف وسعى في نقضه " هشام بن عمرو بن ربيعة العامري " وكانت تربطه بالهاشميين صلة رحم , فهو ابن أخي نضلة بن هاشم , لأمه , وقد دأب طول مدة الحصار , على أن يصلهم فكان يأتي ليلا بالبعير قد أوقره طعاما أو ثيابا حتى إذا بلغ به مدخل الشعب خلع خطامه من رأسه وضربه على جنبه فيدخل البعير الشعب على من فيه بما يحمل .
فلما طال عليهم جهد الحصار مشى هشام بن عمرو بن ربيعة العامري إلى " زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي زاد الركب " وأمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
قال له هشام : " يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم , ما أجابك إليه أبدا " .
ففكر زهير مليا ثم سأل : " ويحك يا هشام , فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد . والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقض الصحيفة حتى أنقضها " . ص 99
قال هشام : قد وجدت رجلا . فسأله : من هو ؟ أجاب : أنا قال زهير : أبغنا رجلا ثالثا .
فذهب هشام إلى " المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف " فقال له : " يا مطعم . أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف . وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا " . فكان جواب مطعم كجواب زهير .
وخرج هشام يبغي رجلا رابعا . فاختار " أبا البختري بن هشام الأسدي " لما عرف من مروءته ونخوته . وما ذاع من خبره مع أبي جهل حين أراد أن يحول بين حكيم بن حزام الأسدي والذهاب بالطعام إلى عمته .
حدثه هشام العامري بمثل ما حدث به صاحبيه زهيرا ومطعما , وسأله أبو البختري : هل أجد من يعين على هذا ؟ أجاب هشام : نعم زهير بن أبي أمية المخزومي زاد الركب ومطعم بن عدي بن نوفل وأنا معك " . فنظر أبو البختري بعيدا إلى ما يتوقع من حمق قريش في غضبها للحلف المعقود الموثق وطلب إلى هشام أن يبغي مؤيدا خامسا . فذهب إلى " زمعة بن الأسود بن عبد المطلب الأسدي " فكلمه في بني هاشم وذكر له قرابتهم منه وحقهم عليه . فأجاب زمعة .
وتواعد الرجال الخمسة على اللقاء ليلا بخطم الحجون . أعلى مكة , وهنالك أجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في أمر الصحيفة الظالمة حتى ينقضوها . واختاروا من بينهم " زهير بن أبي أمية المخزومي ليكون أول من يجاهر برفض الصحيفة ونقض الحلف , في مجتمع قريش بالحرم المكي .
فلما أصبحوا وغدت قريش إلى أنديتها . غدا " زهير " عليه حلى فطاف بالبيت العتيق سبعا ثم أقبل على الناس فقال . " يا أهل مكة , أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع لهم ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة " . ص 100
صاح أبو جهل بن هشام " . فرد عليه زمعة بن الأسود : " أنت والله أكذب . ما رضينا كتابها حيث كتب " . وثنى أبوالبختري : " صدق زمعة . لا نرضى ما كتب فيها ولا نقره " .
وأيدهما مطعم بن عدي : " صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها " .
وتكلم هشام بن عمرو فقال نحو ما قالوا ...
وبهت أبو جهل , والأصوات تأتيه من كل ناحية بالتكذيب والرفض , فنقل بصره حائرا بين هؤلاء الرجال الخمسة ثم لم يجد في أخذة المباغتة بموقفهم سوى أن يقول : " هذا أمر قضي فيه بليل , تشوور فيه بغير هذا المكان " .
لم يلقوا إليه بالا , وقام المطعم على مرأى من الجمع ـ وأبو طالب هناك قد انتحى ناحية من المسجد ـ فانتزع الصحيفة من مكانها في جوف الكعبة ليشقها فإذا بالأرضة قد أكلتها وأتلفتها , لم تدع منها إلا كلمة " باسمك اللهم " .
وجمت قريش , ونهض أبو طالب يسعى إلى من في شعبه بالبشرى , وقد ذكر وهو في طريقه من البيت العتيق بنيه الذين هاجروا إلى الحبشة , فهتف منشدا يرجو أن يبلغهم هنالك صدى صوته :
ألا هــل أتى بحرينـــــــا صنــــع ربنـــــا علــــى نـــــأيهم والله بالنــــــــــــــاس أرود
فيخبــــــرهم أن الصحيفـــــة مـــــــزقت وأن كل مــــــا لم يــــــــرضه الله مفســــــد
تــــــراوحها إفــــك وسحـــــــر مجمـــع ولم يلف سحــــر آخـــــر الدهـــــر يصعــــد
جــــزى الله رهطـا بالحجـــــون تتابعوا على مـــــــلاء يهدي لحــــــزم ويـــــــــرشد
قعــــــودا لـــدى خطم الحجـــون كأنهم مقــــــاولة بل هــــــم أعــــــز وأمجــــــــــد
قضـــوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا على مهـــــل إذ ســــائر النـــــاس رقـــــــــد
وكنــــــا قديما لا نقــــــــر ظــــــــلامة ونـــــدرك مـــا شئنــــــا ولا نتشـــــــــــــدد
ص 101
فيا لقصـــــي هـــل لكم في نفــوسكـم وهـــــل لــــكم فيمـــــا يجـــــئ به غــــــــــد
فــــإني وإيـــــــاكم كـــما قال قـــــائل لــــــــديك البيـــــــان لو تكلمــــــــت أســود (1)
وأيقظ صوته كل من في الشعب , فهللوا للبشرى وهتف المسلمون منهم " الله أكبر " . وسعوا إلى الكعبة فطافوا بها ثم آبوا إلى بيوتهم في أم القرى ينتظرون ماذا يكون من أمر قريش بعد أن تهاوى الحصار .... .
لكن محنة الحصار لم تنجل إلا لتسلم إلى ليل طويل لا يبدو له آخر ....
ماتت " السيدة خديجة " أم المؤمنين الأولى , وزوج نبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم وسكنه ووزيره في العاشر من شهر رمضان سنة عشر من المبعث ...
ومات في العام نفسه " أبو طالب " عم المصطفى وكافله ومانعه . ومن كان له عضدا وحرزا وناصرا على قومه ... . فأحيا موتهما ما مات من أمل المشركين في النصر بعد تهاوى الحصار فعادت وطأة الاضطهاد إلى أشد مما كانت عليه قبل " عام الحزن " .
وأحس المصطفى وحشة الغربة في بيته وأرض مبعثه واشتدت عليه وطأة الحزن لفقدهما . حتى خيل لأعدائه أن النصر عليه جد قريب . ما دروا أن الظلمة تشتد قبيل الفجر .
أدرك عليه الصلاة والسلام أن الموقف لا بد أن يتخذ متجها آخر . وراح يمد بصره إلى ما وراء مكة , يستوعب أبعاد الرؤية لما يحتمل من متجه الأحداث .
....................
(1) حديث الحصار هنا منقول من " السيرة النبوية " 1/ 379 و " تاريخ الطبري " 2/ 225 من طريق ابن اسحق . ص 102
مأخوذ من كتاب مَعَ المُصْطفى صَلى اللهُ عَليْه وَسَلم.
دكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ
أستاذ التفسير والدراسات العليا كلية الشريعة بجامعة القرويين.