العدلُ التام الذي لا يشوبه ظلم
يُوَفِّي الحقُّ – عز وجل – عباده يوم القيامة أجورهم كاملة غير منقوصة ، ولا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [ البقرة : 281 ] .
وقال لقمان في وصيته لابنه معرفاً إياه بعدل الله : ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) [ لقمان : 16 ] .
وقال الحق في موضع آخر : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) [ النساء : 40 ] ، وقال : ( وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) [ النساء : 77 ] . وقال : ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) [ النساء: 124 ] .
وقال تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [ الزلزلة : 7-8 ] ، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى في هذه النصوص أنه يُوفِّي كل عبدٍ عمله، وأنه لا يضيع منه ، ولا ينقص منه مقدار الذرة ، وهي الهباءة التي في أشعة الشمس إذا دخلت من الطاق،ولا مقدار الفتيل ولا النقير ، والفتيل هو الخيط الذي يكون في شق النواة ، والنقير : النقرة الصغيرة التي تكون في ظهر النواة .
وقال تعالى : {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة
وَاحْذَرُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ ذَلِكَ اليَوْمَ العَظِيمَ ، يَوْمَ القِيَامَةِ الذِي تَتَفَرَّغُونَ فِيهِ مِنْ مَشَاغِلِكُمُ الجَسَدِيَّة وَالدُّنْيَويَّةِ التِي كَانَتْ تَصْرِفُكُمْ عَنْ رَبِّكُمْ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيا ، وَيُجَازِي اللهُ كُلا ًبِعَمَلِهِ ، إنْ خَيْراً فَخَيْراً ، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً ، وَلا تُنْقَصُ نَفْسٌ مِنْ ثَوَابِها ، وَلاَ يُزَادُ فِي عِقَابِهَا .
وقال تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (161) سورة آل عمران.
يُنَزِّهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيةِ رَسُولَهُ الكَرِيمَ عَنْ أخْذِ شَيءٍ مِنَ المَغْنَمِ خِلْسَةً ( عَنِ الغُلُولِ ) ، وَعَنِ الخِيَانَةِ فِي أَدَاءِ الأَمَانَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : مَا يَنْبَغِي لِنَبيٍّ أنْ يَغُلَّ لأنَّ اللهَ عَصَمَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مِنْ يَغُلُّ بأنَّهُ سَيَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَهُوَ يَحْمِلُ مَا غَلَّ لِيُحَاسَبَ عَلَيهِ ، وَاللهُ لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ .[1]
فيوفيهم الحقُّ عز وجل يوم القيامة أجورهم كاملة غير منقوصة وإن كان مثقال حبة من خردل، قال تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (40) سورة النساء
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُ سَوْفَ يُوَّفِيِهِمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمْ كَامِلَةً ، وَلاَ يَظْلِمُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ مِثْقَالَ ( أَيْ ثِقْلَ ) حَبَّةِ خَرْدَلٍ ، وَلاَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنَّمَا يُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ ، وَيُضَاعِفُ الحَسَنَاتِ لِفَاعِلِيهَا ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَيُؤْتِي مِنْ لَدُنْهُ الجَنَّة لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ ، وَهِيَ الأَجْرُ العَظِيمُ الذِي وَعَدَهُمْ بِهِ[2]
وقال تعالى في موضع آخر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (( الزلزلة 7-.
فَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ خَيْرٍ فَإِنَّهُ سَيَجِدُ ثَوَابَهُ مَهْمَا كَانَ حَقِيراً ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِي وَزْنِ الذَّرَّةِ . فعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ - r - « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ »[3].
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - r - فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ »[4].
وَمَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ سُوءٍ فَإنَّهُ وَاجِدٌ جَزَاءَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ اليَوم.
ثم يكون الجزاء الحق من الحق تبارك وتعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (124) سورة النساء
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَمَلاً صَالِحاً ، وَهُوَ مُطْمَئِنُ القَلْبِ بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، فَإِنَّ اللهَ يُكَافِئُهُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ بِإِدْخَالِهِ الجَنَّةَ ، وَلاَ يُنْقِصُهُ شَيْئاً مِنْ عَمَلِهِ وَلَوْ كَانَ شَيْئاً بَسِيطاً جِدّاً ( نَقِيراً ) .النَّقِيرُ - نُقْطَةٌ دَاخِلَ نَوَاةِ التَّمْرِ لاَ وَزْنَ لَهَا .[5]
وجاءت كلمتا " ذكر " و" أنثى " هنا حتى لا يفهم أحد أن مجيء الفعل بصيغة التذكير في قوله (يعمل) أن المرأة معفية منه؛ لأن المرأة في كثير من الأحكام نجد حكمها مطموراً في مسألة الرجل، وفي ذلك إيحاء بأن أمرها مبني على الستر.
لكن الأشياء التي تحتاج إلى النص فيها فسبحانه ينص عليها. { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى }. وجاء سبحانه هنا بلفظة (مِن) التي تدل على التبعيض.. أي على جزءٍ من كلّ فيقول: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ } ولم يقل: " ومن يعمل الصالحات " لأنه يعلم خلقه. فلا يوجد إنسان يعمل كل الصالحات، هناك من يحاول عمل بعضٍ من الصالحات حسب قدرته. والمطلوب من المؤمن أن يعمل من الصالحات على قدر إمكاناته ومواهبه.
وتبدأ الأعمال الصالحة من أن يترك الإنسان الأمور الصالحة على صلاحها، فإبقاء الصالح على صلاحه معناه أن المؤمن لن يعمل الفساد، هذه هي أول مرتبة، ومن بعد ذلك يترقى الإنسان في الأعمال الصالحة التي تتفق مع خلافته في الأرض، وكل عمل تصلح به خلافة الإنسان في الأرض هو عمل صالح؛ فالذي يرصف طريقاً حتى يستريح الناس من التعب عمل صالح، وتهيئة المواصلات للبشر حتى يصلوا إلى غايتهم عمل صالح، ومن يعمل على ألاّ ينشغل بال البشر بأشياء من ضروريات الحياة فهذا عمل صالح.
كل ما يعين على حركة الحياة هو عمل صالح. وقد يصنع الإنسان الأعمال الصالحة وليس في باله إله كعلماء الدول المتقدمة غير المؤمنة بإله واحد. كذلك العلماء الملاحدة قد يصنعون أعمالاً صالحة للإنسان، كرصف طرق وصناعة بعض الآلات التي ينتفع بها الناس، وقاموا بها للطموح الكشفي، والواحد من تلك الفئة يريد أن يثبت أنه اخترع واكتشف وخدم الإنسانية ونطبق عليه أنه عمل صالحاً، لكنه غير مؤمن؛ لذلك سيأخذ هؤلاء العلماء جزاءهم من الإنسانية التي عملوا لها، وليس لهم جزاء عند الله.
أما من يعمل الصالحات وهو مؤمن فله جزاء واضح هو:{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً }[النساء: 124]
قد يقول البعض: إن عدم الظلم يشمل من عمل صالحاً أو سوءا ونجد من يقول: من يعمل السوء هو الذي يجب أن يتلقى العقاب، وتلقيه العقاب أمر ليس فيه ظلم،والحق هو القائل:{ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا }[يونس: 27]
ومن يصنع الحسنة يأخذ عشرة أمثالها. وقد يكون الجزاء سبعمائة ضعف ويأتيه ذلك فضلا من الله، والفضل من الله غير مقيد وهو فضل بلا حدود، فكيف يأتي في هذا المقام قوله تعالى: { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } وهم قد أعطوا أضعافاً مضاعفة من الجزاء الحسن، ونقول: إن الفضل من الخلق غير ملزم لهم، مثل من يستأجر عاملاً ويعطيه مائة جنيه كأجر شهري، وفي آخر الشهر يعطيه فوق الأجر خمسين جنيهاً أو مائة، وفي شهر آخر لا يعطيه سوى أجره، وهذه الزيادة إعطاؤها ومنحها فضل من صاحب العمل.
أما الفضل بالنسبة لله فأمره مختلف. إنه غير محدود ولا رجوع فيه. وهذا هو معنى { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } ، فسبحانه لا يكتفي بجزاء صاحب الحسنة بحسنة، بل يعطي جزاء الحسنة عشر أمثالها وإلى سبعمائة ضعف، ولا يتراجع عن الفضل؛ فالتراجع في الفضل - بالنسبة لله - هو ظلم للعبد. ولا يقارن الفضل من الله بالفضل من البشر. فالبشر يمكن أن يتراجعوا في الفضل أما الله فلا رجوع عنده عن الفضل.
وهو القائل:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58]
وأصحاب العمل الصالح مع الإيمان يدخلون الجنة مصداقاً لقوله تعالى: { فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } والنقير هو: النقرة في ظهره النواة، وهي أمر ضئيل للغاية. وهناك شيء آخر يسمى " الفتيل " وهو المادة التي تشبه الخيط في بطن نواة التمر، وشيء ثالث يشبه الورقة ويغلف النواة واسمه " القطمير ".
وضرب الله الأمثال بهذه الأشياء القليلة لنعرف مدى فضله سبحانه وتعالى في عطائه للمؤمنين."[6]
___________