إفحام النصارى
مختصر مهذب من رسالة (الأجوبة الفاخرة) للقرافي فيه الرد
على شبهات النصارى في عدم آفرهم
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
جاء المسيح عن الإله رسولا
فأبى أقل العالمين عقولا
ضل النصارى في المسيح وأقسموا
لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا
جعلوا الثلاثة واحدا ولو اهتدوا
لم يجعلوا العدد الكثير قليلا
(٨- (منظومة البوصري في الرد على النصارى ص ٧
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه
أجمعين .
أما بعد .... فإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه ، وتبارك اسمه ، وتعالى جده، ولا إله
غيره ، جعل الإسلام عصمة لمن لجأ إليه ، وجنًة لمن استمسك به ، وعض بالنواجذ
عليه ، فهو حرمه الذي من دخله آان من الهالكين ، وأبى أن يقبل من أحد دينا سواه ،
ولو بذل في المسير إليه جهده ، واستفرغ فواه ،فأظهره على الدين آله حتى طبق
مشارق الأرض ومغاربها ، وسار مسير الشمس في الأقطار ، وبلغ إلى حيث انتهى
الليل والنهار .
وآبت الله من يبغضه ويعاديه ، ووسمهم بأنهم شر الدواب ، وحكم لهم بأنهم أضل سبيلا
من الأنعام ، إذ استبدلوا الشرك بالتوحيد ، والضلال بالهدى ، والكفر بالإسلام ، وحكم
عليهم بقوله تعالى { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة
الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين آفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت
أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما آفروا واتخذوا آياتي
ورسلي هزوا }
لقد رضي المسلمون بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد رسول ، ورضي النصراني
المخذول بالصليب والوثن إلها ، و بالتثليث والكفر دينا ، وبسبيل الضلال والغضب
سبيلا .
فهؤلاء النصارى الضلال هم عباد الصليب الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها
أحد من البشر ، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم
يكن له آفوا أحد .
فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتهم {إن الله ثالث ثلاثة }وأن مريم صاحبته ، والمسيح
ابنه و
أنه –تعالى عما يقولون – نزل عن آرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة ، وجرى له ما
جرى إلى أن قتل ومات ودفن !!
فدين هذه الأمة عبادة الصلبان ، ودعاء الصور المنقوشة في الحيطان ، يقولون في
دعائهم :"يا والدة الإله ارزقينا ، واغفري لنا وارحمينا "!!
فدينهم شرب الخمر ، وأآل الخنزير ، و ترك الختان ، والتعبد بالنجاسات ، واستباحة
آل خبيث ، فالحلال عندهم ما حلله القس ، والحرام ما حرمه ، وينجيهم من عذاب
السعير .
وقد حكم الله عليهم بالكفر البواح الذي لا يستريب فيه ع اقل ، ولم يشك فيه من في قلبه
ذرة من إيمان.
فالأدلة على آفرهم آثيرة ، ليس هذا موضعها .
ولكن هؤلاء الضلال من النصارى يلبسون بين حين وآخر على المسلمين بأنهم
موحدون ، وأنهم مؤمنون بالله تعالى ، ويزداد تلبيسهم وتعظم شبهاتهم إذا انتزعوا من
القرآن آيات يظنونها بجهلهم تزآيهم ، أو تشهد بصحة دينهم.
وليس العجب من صنيع النصارى ، فليس بعد الكفر ذنب ، وإنما العجب من انقياد
شرذمة من آتاب وآاتبات يدعون الإسلام ، ثم ينساقون وراء ادعاءات النصارى.
فهذا أحدهم ينشر مقالا في جريدة (الشرق الأوسط ) يدعي فيها أن اليهود والنصارى
وغيرهم من المشرآين والملحدين من أهل الجنة !!
ويستغرب أن تدخل هذه الجموع والمليارات من الأمم النار ! ونسي هذا الجاهل قوله
تعالى :{لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.
وهذه إحداهن تكتب في جريدة الرياض وتقول نحن نؤمن بعيسى وموسى وغيرهما ،
ونؤمن بأحقية –وجود أهل الكتاب ، ويفترض ألا نسبهم ولانطلق عليهم صفة الكفر ،
ولكن هناك من يحول الدين إلى صفة عصبية يعلن عنها عنفا وغضبا )!!
ولاحظ –أخي القارىء –قولها (نؤمن) و(يفترض) ، فمسألة إيمانهم لا تقبل الجدال عندها
!
فقد منحتهم هذه الكاتبة المستهترة صفة الإيمان ودخول الج نان ، وألقت بآيات الله
المكفرة لهم وراء
ظهرها –نعوذ بالله من الكفر بعد الإيمان ، ومن الضلال بعد الهدى.
وهذه آاتبه أخرى قد شب عودها في الحداثة !!
تكتب بعد موت (ديانا) مقالا في جريدة اليوم بعنوان (ديانا الكافرة !!)لتخبرنا فيه بأن
الحزن لم يزل (يعاودها) بين الحين والآخر آلما تذآرت موت ديانا !!
وتسخر فيه من إحدى المؤمنات اللواتي نصحنها بعدم جواز البكاء والحزن على موت
آافرة داعرة.
هذه – أخي المسلم – نماذج للحال التي وصل إليها آتابنا وآاتباتنا ممن يسمون أنفسهم
(بالمثقفين والمثقفات والمبدعين والمبدعات ).
فإذا انكش ف الحال وجدت أن إبداعهم يكمن في التمرد على الشريعة بأسلوب صريح أو
مبطن ، وفي موادة أعداء الله من النصارى ومحبتهم من دون المؤمنين ونسوا قوله
تعالى:{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله }..وقوله :{*يأيها
الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنص ارى أولياء ببعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم
فإنه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين}.
فنعوذ بالله من (ثقافة) و (إبداع) تكون خاتمته الردة والإنسلاخ من دين الله تحت دعاوى
(الحداثة)و(الفكرالحر)...وغيرهامن زخارف الشيطان .
نسأل الله الهداية للجميع وأن يسخروا أقلامهم في نصرة دين الله ، ليكونوا من المفلحين
في الدنيا والآخرة .
ختاما:سيأتيك في الأوراق القادمة فصل جميل من فصول رسالة (الأجوبة الفاخرة )
للإمام القرافي –رحمه الله - رد فيه على شبهات النصارى في عصره وادعائهم الإيمان
وأن القرآن قد أثنى على دينهم وحكم لهم بالنجاة يوم القيامة .
وهي شبهات لم يزل النصارى يرددونها في آل زمان ويلتقطها منهم مرضى القلوب
من المسلمين ليروجوها بين أبناء الأمة تحت مسمى (التسامح) و(الحرية
الفكرية)و(السلام).
وقد أحببت أن أنشرها رجاء انتفاع المسلمين بها لا سيما وقد صادفت وقتا مناسبا تك اثر
فيه المدافعون عن دين النصارى لتكون خير راد عليهم وخير مجل للحقيقة أمام عامة
المسلمين.
وستأتيك هذه الشبهات متتالية ، آل شبهة تعقبها الإجابة عنها:-
١- فمنه ا:أنهم قالوا :إن محمدا –صلى الله عليه وسلم - لم يبعث إلينا ، فلا يجب علينا
اتباعه ، وإنما قلنا : إنه لم يرسل إلينا لقوله تعالى في الكتاب العزيز :{إنا أنزلنه قرءانا
عربيا }. ولقوله تعالى :{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }. ولقوله
تعالى :{بعث في الأميًن رسولا منهم }. ولقوله تعالى :{لتنذر قوما ما أتاهم من نذير
من قبلك لعلهم يتذآرون }. ولقوله تعالى : {وأنذر عشيرتك الأقربين }. ولا يلزمنا إلا
من جاءنا بلساننا ، وأتانا بالتوراة والإنجيل بلغاتنا .
فالجواب من وجوه :
أحدها: أن الحكمة في أن الله تعالى إنما يبعث رسله بألسنة قومهم ، ليكون ذلك أبلغ
في الفهم عنه ومنه ، وهو أيضا يكون أقرب لفهمه عنهم جميع مقاصدهم في الموافقة
والمخالفة وإزاحة الأعذار والعلل ، والأجوبة عن الشبهات المعارضة ، وإيضاح
البراهين القاطعة ، فإن مقصود الرسالة في أول وهلة إنما هو البيان والإرشاد وهو مع
اتحاد اللغة أقرب ، فإذا تقررت نبوة النبي في قومه قامت الحجة على غيرهم ، إذا
سلموا و وافقوا ، فغيرهم أولى أن يسلم ويوافق ، فهذه هي الحكمة في إرسال الرسول
بلسان قومه ، ومن قومه .
وفرق : بين قول الله تعالى :{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } وبين قوله :{وما
أرسلنا من رسول إلا لقومه }فالقول الثاني هو المفيد لاختصاص الرسالة بهم ، لا الأول
. بل لا فرق بين قوله :{وما أرسلنا من رسول إلا لقومه }.وبين قوله :{وما أرسلنا من
رسول إلا مكلفا بهداية قومه }فكما أن الثاني لا إشعار له بأنه لم يكلف بهداية غيرهم ،
فكذلك الأول ، فمن لم يكن له معرفة بدلالة الألفاظ ، ومواقع المخاطبات سوى بين
المختلفات ، وفرق بين المؤتلفات.
وثانيها:أن التوراة نزلت باللسان العبراني والإنجيل بالرومي ، فلو صح ما قالوه
لكانت النصارى آلهم مخطئين في اتباع أحكام التوراة ، فإن جميع فرقهم لا يعلمون هذا
اللسان إلا آما يعلم الروم اللسان العربي بطريق التعليم ، وأن تكون القبط آلهم والحبشة
مخطئين في اتباعهم التوراة والإنجيل ، لأن الفريقين غير العبراني والرومي ، ولو لم
ينقل هذان الكتابان بلسان القبط ، وترجما بالعربي لم يفهم قبطي ، ولا حبشي ، ولا
رومي شيئا من التوراة ، ولا قبطي ولا حبشي شيئا من الإنجيل إلا أن يتعلموا ذلك
اللسان ، آما يتعلمون العربي .
وثالثها:أنه إذا سلم أنه عليه السلام رسول لقومه ، ورسل الله تعالى خاصة خلقه
وخيرة عباده معصومون عن الزلل ، مبرؤون من الخطل ، وهو عليه السلام قد قاتل
اليهود ، وبعث إلى الروم ينذرهم وآتابه عليه السلام محفوظ عندهم إلى اليوم في بلاد
الروم عند ملكهم يفتخرون به ، وآتب إلى المقوقس بمصر لإنذار القبط ولكسري
بفارس ، وهو الصادق البر ، آما سلم أنه رسول لقومه ، فيكون رسولا للجميع ، ولأن
في جملة ما نزل عليه –صلى الله عليه وسلم - {وما أرسلنك إلا آافة للناس }.فصرح
بالتفهيم ، واندفعت شبهة من يدعي التخصيص ، فإن آانت النصارى لا يعتقدون أصل
الرسالة ، لا لقومه ، ولا لغيره ، فيقولون : أوضحوا لنا صدق دعواآم ، ولا يقولون
آتابكم يقتضي تخصص الرسالة ، وإن آانوا يعتقدون أصل الرسالة لكنها مخصوصة
لزمهم التعميم لما تقدم ، وآذلك قوله تعالى {بعث
في الأميٍين رسولا منهم } لا يقتضي أنه لم يبعثه لغيرهم ، فإن الملك العظيم إذا قال :
بعثت إلى مصر رسولا من أهلها لا يدل ذلك على أنه ليس على يده رسالة أخرى
لغيرهم ، ولا أنه لا يأمر قوما آخرين بغير تلك الرسالة ، وآذلك قوله تعالى :{لتنذر
قوما ما أنذر ءاباؤهم }ليس فيه أنه لا ينذر غيرهم ، بل لما آان الذي يتلقى الوحي أولا
هم العرب آان التنبيه عليه بالمنة عليهم بالهداية أولى من غيرهم ، وإذا قال السيد لعبده
: بعثتك لتشتري ثوبا ، لا ينافي أنه أمره بشراء الطعام ، بل تخصيص الثوب بالذآر
لمعنى اقتضاه ، ويسكت عن الطعام ، لأن المقصد الآن لا يتعلق به ، وما زالت العق لاء
في مخاطباتهم يتكلمون
فيما يوجد سببه ، ويسكتون عما لم يتعين سببه ، وإن آان المذآور والمسكوت عنه
حقين واقعين ، فكذلك الرسالة عامة ، ولما آان أيضا المقصود تنبيه بني إسرائيل ،
وإرشادهم خصوا بالذآر ، وخصصت آل فرقة من اليهود والنصارى بالذآر ، ولم
يذآر معها غيرها في القرآن في تلك الآيات المتعلقة بهم ، وهذا هو شأن الخطاب أبدا ،
فلا يغتر جاهل بأن ذآر زيد بالحكم يقتضي نفيه عن عمرو ، وآذلك قوله تعالى :
{وأنذر عشيرتك الأقربين }ليس فيه دليل على أنه لا ينذر غيرهم ، آما أنه إذا قال
القائل لغيره : أدب ولدك ، لا يدل ع لى أنه أراد أنه لا يؤدب غلامه ، بل ذلك يدل على
أنه مراد
المتكلم في هذا المقام تأديب الولد ،لأن المقصود مختص به ، ولعله إذا فرغ من الوصية
على الولد لاهتمامي به ، ولا يقول عاقل : إن آلامه الثاني مناقض للأول ، وآذلك
قرابته عليه السلام هم أولى الناس ببره عليه السلام وإحسانه ، وإنقاذه من المهلكات ،
فخصهم بالذآر لذلك ، لا أن غيرهم غير مراد آما ذآرنا في صورة الولد والعبد .
وبالجملة فهذه الألفاظ ألفاظ لغتنا ، ونحن أعلم بها وإذا آان عليه السلام هو المتكلم
بها ولم يفهم
تخصيص الرسالة ، ولا إرادته ، بل أنذر الروم و الفرس وسائر الأمم ، والعرب لم تفهم
ذلك وأعداؤه من أهل زمانه لم يدعوا ذلك ، ولا فهموه ، ولو فهموه لأقاموا به الحجة
عليه ، ونحن أيضا لم نفهم ذلك .
٢-ومنها أنهم قالو ا: أن القرآن الكريم ورد بتعظيم عيسى عليه السلام ، وبتعظيم
أمه مريم رضي الله عنها ، وهذا هو رأي نا واعتقادنا فيها ، فالدينان واحد ، فلا ينكر
المسلمون علينا .
والجواب من وجوه أحدها: تعظيمهما لا نزاع فيه ، ولم يكفر النصارى بالتعظيم ،
إنما آفروا بنسبة أمور أخرى إليها لا يليق بجلال الربوبية ، ولا بدناءة البشرية من
الأبوة والبنوة والحلول ، والإلحاد ، وا تخاذ الصاحبة والأولاد تعالى الله عما يقول
الكافرون علوا آبيرا ، فهذه مغالطة في قوله (موافق لاعتقادن ا) ، ليس هذا هو الاعتقاد
المتنازع فيه ، نعم لو ورد القرآن الكريم بهذه الأمور الفاسدة المتقدم ذآرها وحاشاه
آان موافقا لاعتقادهم ، فأين أحد البابين من الآخر ؟؟
وثانيها أنه اعترف بأن القرآن الكريم ورد بما يعتقد أنه حق ، فإن الباطل لا يؤآد
الحق ، بل المؤآد للحق حق جزما ، فيكون القرآن الكريم حقا قطعا ، وهذا هو سبب
إسلام آثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى ، وهو أنهم اختبروا ما جاء به عليه
السلام ، فوجدوه موافقا لما آانوا يعتقدونه من الحق ، فجزموا بأنه حق وأسلموا واتبعوه
، وما زال العقلاء على ذلك يعتبرون آلام المتكلم ، فإن وجدوه على وفق ما يعتقدونه
من الحق اتبعوه ، وإلا رفضوه .
وثالثها أن هذا برهان قاطع على رجحان الإسلام على سائر الملل والأديان ، فإن
مشتعل على تعظيم جملة الرسل وجميع الكتب المنزلة ، فالمسلم على أمان من جميع
الأنبياء عليهم السلام على آل تقدير ، أما النصراني فليس على أمان من تكذيب محمد –
صلى الله عليه وسلم - ، فتعين رجحان الإسلام على غيره ، ولو سلمنا تحرير صحة ما
يقوله النصراني من النبوة وغيرها يكون المسلم قد اعترف لعيسى عليه السلام ، ولأمه
رضي الله عنها بالفضل العظيم والشرف المنيف ، وجهل بعض أحوالهما ، على
تقدير تسليم صحة ما ادعاه النصارى والجهل ببعض فضائل من وجب تعظيمه لا
يوجب ذلك خطرا ، أما النصراني ، فهو منكر لأصل تعظيم النبي –صلى الله عليه
وسلم- ، بل ينسبه للكذب والرذائل والجراءة على سفك الدماء بغير إذن من الله ، ولا
خفاء في أن هذا خطر عظيم ، وآفر آبير ، فيظهر من هذا القطع بنجاة المسلم قطعا
ويتعين غيره للغرر والخطر قطعا ، فليبادر آل عاقل حينئذ الإسلام ، فيدخل الجنة
بسلام .
٣-ومنها أنهم قالو ا: إن القرآن الكريم ورد بأن عيسى عليه السلام روح الله تعالى
وآلمته ، وهو اعتقادنا .
والجواب من وجوه أحدها: أن من المحال أن يكون المراد الروح والكلمة على ما
تدعيه النصارى ، وآيف يليق بأدنى العقلاء أن يصف عيسى عليه السلام بصفة ،
وينادي بها على رؤوس الأشهاد ، ويط بق بها الآفاق ، ثم يكفر من اعتقد تلك الصفة في
عيسى عليه السلام ، ويأمر بقتالهم وقتلهم وسفك
دمائهم وسبي ذراريهم ، وسلب أموالهم ، بل هو بالكفر أولى لأنه يعتقد ذلك مضافا إلى
تكفير غيره ،
والسعي في وجوه ضرره ، وقد اتفقت الملل آلها مؤمنها وآافرها على أنه عليه السلام
من أآمل الناس في الصفات البشرية خَلقا وخُلقا وعقلا ورأيا ، فإنها أمور محسومة ،
إنما النزاع في الرسالة الربانية ، فكيف يليق به عليه السلام أن يأتي بكلام هذا معناه ، ثم
يقاتل معتقده ويكفره ، وآذلك أصحابه رضي الله عنهم والفضلاء من الخلفاء من بعده ،
وهذا برهان قاطع على أن المراد على غير ما فهمه النصارى.
ثانيها: أن الروح اسم الريح الذي بين الخافقين يقال لها : ريح وروح لغتان ، وآذلك
في الجمع رياح وأرواح ، واسم لجبريل عليه السلام وهو المسمى بروح القدس ،
والروح اسم للنفس المقومة للجسم الحيواني ، والكلمة اسم للفظة المفيدة من الأصوات .
وتطلق الكلمة على الحروف الدالة على اللفظة من الأصوات ، ولهذا يقال : هذه الكلمة
خط حسن ومكتوبة بالحبر ، وإذا آانت الروح والكلمة لهما معان عديدة فعلى أيهما
يحمل هذا اللفظ ؟ وحمل النصراني اللفظ على معتقده تحكم بمجرد الهوى المحض .
وثالثهما :وهو الجواب بحسب الاعتقاد لا بحسب الإلزام ، أن معنى الروح المذآور
في القرآن الكريم في حق عيسى عليه السلام هو الروح الذي بمعنى النفس المقوم لبدن
الإنسان ، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام من روحه أنه خلق روحا نفخها
فيه ، فإن جميع أرو اح الناس يصدق أنها روح الله ، وروح آل حيوان هي روح الله
تعالى ، فإن الإضافة في لسان العرب تصدق حقيقة بأدنى الملابسة ، آقول أحد حاملي
الخشبة لآخر : شل طرفك يريد طرف الخشبة ، فجعله طرفا ، للحامل ،
ويقول : طلع آوآب زيد إذا آان نجم عند طلوعه يسري بالليل ، ونس بة الكوآب إليه
نسبة المقارنة فقط ، فكيف لا يضاف آل روح إلى الله تعالى ، وهو خالقها ومدبرها في
جميع أحوالها ؟ وآذلك
يقول بعض الفضلاء لما سئل عن هذه الآية فقال : نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام
روحا من
أرواحه ، أي جميع أرواح الحيوان أرواحه ، وأما تخص يص عيسى عليه السلام ، وعلو
منزلته بذآر الإضافة إليه ، يقال : آما قال تعالى :{وما أنزلنا على عبدن ا}. .{إن عبادى
ليس لك عليهم سلطن}
مع أن الجميع عبيده ، وإنما التخصيص لبيان منزلة المخصص ، وأما الكلمة فمعناها أن
الله تعالى إذا أراد شيئا يقول له : آن فيكون ، فم ا من موجود إلا وهو منسوب إلى آلمة
آن ، فلما أوجد الله تعالى عيسى عليه السلام قال له : آن في بطن أمك فكان ،
وتخصيصه بذلك للشرف آما تقدم ، فهذا معنى معقول متصور ليس فيه شئ آما يعتقده
النصارى من أن صفة من صفات الله حلت في ناسوت المسيح
عليه السلام ، وآيف يمكن في العقل أن تفارق الصفة الموصوف ، بل لو قيل لأحدنا :
إن علمك أو حياتك انتقلت لزيد لأنكر ذلك آل عاقل ، بل الذي يمكن أن يوجد في الغير
مثل الصفة ، وأما أنها هي في نفسها تتحرك من محل إلى محل فمحال لأن الحرآات
من صفات الأجسام ، والصفة ليست جسما ، فإن آانت النص ارى تعتقد أن الأجسام
صفات ، والصفات أجسام ، وأن أحكام المختلفات وإن تباينت شئ واحد سقطت
مكالمتهم ، وذلك هو الظن بهم ؛ بل يقطع بأنهم أبعد من ذلك عن موارد العقل ومدارك
النظر ، وبالجملة فهذه آلمات عربية في آتاب عربي ، فمن آان يعرف لسان العرب
حق
معرفته في إض افة وتعريفاته وتخصيصاته ، وتعميماته ، وإطلاقاته وتقييداته ، وسائر
أنواع استعمالاته فليتحدث فيه ويستدل له ، ومن ليس آذلك فليقلد أهله العلماء به ،
ويترك الخوض فيما لا يعنيه ولا يعرفه .
٤- ومنها : أنهم قالوا في الكتاب العزيز إنه : {وجاعل الذين اتبعوك فوق ا لذين
آفروا إلى يوم القيمة}.
والجواب: أن الذين اتبعوه ليسوا النصارى الذين اعتقدوا أنه ابن الله ، وسلكوا مسلك
هؤلاء الجهلة ، فإن اتباع الإنسان موافقته فيما جاء به وآون هؤلاء المتأخرين اتبعوه
محل النزاع ، بل متبعوه هم الحواريون ، ومن تابعهم قبل ظهور القول بال تثليث ، أولئك
هم الذين رفعهم الله في الدنيا والآخرة ، ونحن إنما نطالب هؤلاء بالرجوع إلى ما آان
أولئك عليه فإنهم قدس الله أرواحهم آمنوا بعيسى وبجملة النبيين صلوات الله عليهم
أجمعين ، وآان عيسى عليه السلام بشرهم بمحمد –صلى الله عليه وسلم - ، فكانوا
ينتظرون ظهو ره ليؤمنوا به عليه السلام ، وآذلك لما ظهر عليه السلام جاءه أربعون
راهبا من
نجران فتأملوه فوجدوه فهو الموعود به في ساعة واحدة بمجرد النظر والتأمل لعلاماته
، فهؤلاء هم الذين اتبعوه وفهم المرفوعون المعظمون ، وأما هؤلاء النصارى فهم الذين
آفروا به مع من آفر ، وجعلوه سببا لانتهاك حرمة الربوبية بنسبة واجب الوجود
المقدس عن صفات البشر إلى الصاحبة والولد الذي ينفر منها أقل رهبانهم ، حتى أنه قد
ورد أن الله تعالى إذا فال لعيسى عليه السلام يوم القيامة :{ءأنت قلت للناس اتخذونى
وأمي إلهين من دون الله }. يسكت أربعين سنة خ جلا من الله تعالى حيث جعل سببا
للكفر به ، وانتهاك حرمة جلالة ، فخواص الله تعالى يألمون ويخجلون من اطلاعهم
على انتهاك الحرمة ،
وإن لم يكن لهم فيها مدخل ولا لهم فيها تعلق ، فكيف إذا آان لهم فيها تعلق من حيث
الجملة ، ومن عاشر أمائل الناس ورؤسائهم ، وله عقل قو يم وطبع النصارى أدرك هذا
، فما آذى أحد عيسى عليه السلام ما آذته هؤلاء النصارى ، ونسأل الله العفو والعافية
بمنه وآرمه .
٥- ومنه ا:أنهم قالوا : إن القرآن الكريم شهد بتقديم بيع النصارى وآنائسهم على
مساجد المسلمين بقوله تعالى : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببع ض لهدمت صوامع
وبيع وصلوات ومساجد يذآر فيها اسم الله آثير ا}فقد جعل الصوامع والبيع مقدمات على
المساجد ، وجعل فيها ذآر الله آثيرا ، وذلك يدل على أن النصارى –في زعمهم - على
الحق ، فلا ينبغي لهم العدول عما هم عليه ، لأن العدول عن الحق إنما يكون للباطل .
والجواب : من وجوه:
أحدها: أن المراد بهذه الآية أن الله تعالى يدفع المكاره عن الأشرار بوجود الأخيار ،
فيكون وجود الأخيار سببا لسلامة الأشرار من الفتن والمحن ، فزمان موسى عليه
السلام يسلم فيه أهل الأرض من بلاء يعمهم بسبب من فيه من أهل الاستقامة على
الشريعة الموسو ية ، وزمان عيسى عليه السلام يسلم فيه أهل الاستقامة على الشريعة
العيسوية ، وزمان محمد –صلى الله عليه وسلم - يسلم فيه أهل الأرض بسبب من فيه
من أهل الاستقامة على الشريعة المحمدية ، وآذلك سائر الأزمان الكائنة بعد الأنبياء
عليهم السلام ، آل من آان مستقيما على الشريعة الماضية هو سبب لسلامة البقية ،
فلولا أهل الاستقامة في زمن موسى عليه السلام لم يبق صوامع يعبد الله تعالى فيها على
الدين الصحيح لعموم الهلاك ، فينقطع الخير بالكلية ، وآذلك في سائر الأزمان ، فلولا
أهل الخير في زماننا لم يبق مسجد يعبد الله فيه على الد ين الصحيح ، ولغضب الله
تعالى على أهل الأرض .
والصوامع أمكنة الرهبان في زمن الاستقامة حيث يعبد الله تعالى فيها على دين صحيح
، وآذلك البيعة والصلاة والمسجد ، وليس المراد هذه المواطن إذا آفر بالله تعالى فيها
وبدلت شرائعه ، وآانت محل العصيان والطغيان لا محل ا لتوحيد والإيمان ، وهذه
المواطن في أزمنة الاستقامة لا نزاع فيها ، وإنما النزاع لما تغيرت أحوالها ، وذهب
التوحيد وجاء التثليث وآذبت الرسل والأنبياء عليهم السلام ، وصار ذلك يتلى في
الصباح والمساء ، حينئذ هي أقبح بقعة على وجه الأرض وألعن مكان يوجد ، فلا تجعل
هذه الآية دليلا على تفضيلها .
وثانيها:أن الله تعالى قال : (صوامع وبيع وصلوات ) بالتنكير ، والجميع المنكر لا
يدل عند العرب على أآثر من ثلاثة من ذلك المجموع بالاتفاق ، ونحن نقول : إنه قد
وقع في الدنيا ثلاث من البيع ، وثلاث من الصوامع آانت أفضل مواضع العبادات
بالنسبة إلى ثلاثة مساجد ، وذلك أن البيع التي آان عيسى عليه السلام وخواصه من
الحواريين يعبدون الله تعالى فيها هي أفضل من جميع المساجد ، ثلاثة أو أربعة لم يصل
فيها إلا السفلة من المسلمين ، وهذا لا نزاع فيه ، إنما النزاع في البيع والصوامع على
العموم واللفظ لا يقتضيه ، لأنه جمع منكر ، وإنما يقتضيه أن لو آان معرفا آقولنا :
(البيع) باللام .
وثالثها:أن هذه الآية تقتضي أن المساجد أفضل بيت عند الله تعالى على عكس ما
قاله هؤلاء الجهال بلغة العرب ، وتقريره أن الصنف القليل المنزلة عند الله تعالى أقرب
للهلاك من العظيم المنزلة ، والقاعدة العربية أن الترقي في الخطاب إلى الأعلى فالأعلى
أبدا في المدح والذم والتفخيم ، والامتنان ؛ فتقول في المدح : الشجاع البطل ، ولا تقول
: البطل الشجاع ، لأنك تعد راجعا عن الأول ، وفي الذم : العاصي الفاسق ، ولا تقول :
الفاسق العاصي ، وفي التفخيم : فلان يغلب الألف والمائة ، وفي الامتنان لا أبخل عليك
بالدرهم ولا بالدينار ، ولا يقول بالدينار والدرهم ، والسر في الجميع أنك تعد راجعا
عن الأول آقهقرتك عما آنت فيه إلى ما هو أدنى منه ، إذا تقرر ذلك ظهرت فضيلة
المساجد ومزيد شرفها على غيرها ، وإن هدمها أعظ م من تجاوز ما يقتضي هدم غيرها
، آما نقول : لولا السلطان لهلك الصبيان والرجال والأمراء ، فترتقي أبدا للأعلى
فالأعلى لتفخيم أمر عزم السلطان ، وإن وجوده سبب عصمة هذه الطوائف ، أما لو
قلت: لولا السلطان لهلك الأبطال والصبيان لعد آلاما متهافتا .
ورابعها:أن الآ ية تدل على أن المساجد أفضل بيت وضع على وجه الأرض
للعابدين من وجه آخر ، وذلك أن القاعدة العربية أن الضمائر إنما يحكم بعودها على
أقرب مذآور ، فإذا قلت : جاء زيد ، وخالد ، وأآرمته فالإآرام خاص بخالد ، لأنه
الأقرب فقوله تعالى :{يذآر فيها اسم الله آثير ا}. يختص بالأخير الذي هو المساجد ، فقد
اختصت بكثرة ذآر الله تعالى ، وهو يقتضي أن غيرها لم يساوها في آثرة الذآر ،
فتكون أفضل ، وهو المطلوب .
فائدة:الصومعة موضع الرهبان ، وسميت بذلك لحدة أعلاها ودقته ، ومنه قول
العرب: أصمعت الثريدة : إذا رفعت أعلاها ، ومنه قولهم : رجل أصمع القلب ، إذا آان
حاد الفطنة . والصلاة: اسم لمتعبد اليهود ، وأصلها بالعبراني صلوتا فعربت ،
والبيع اسم لمتعبد النصارى ، اسم مرتجل غير مشتق ، والمسجد اسم لمكان
السجود فإن مفعلا في لسان العرب ، اسم للمكان ، واسم للزمان الذي يقع فيه الفعل
نحو: المضرب لمكان الضرب ورماته .
٦- ومنه ا: أنهم قالوا : القرآن دل على تعظيم الحواريين والإنجيل ، وأنه غير مبدل
بقوله تعالى :{وأنزلنا إليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب }. وإذا صدقها لا
تكون مبدلة ، ولا يطرأ الت غيير عليها بعد ذلك لشهرتها في الأعصار والأمصار ،
فيعذر تغيرها ، ولقوله تعالى في القرآن :{الَمَ * ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين }.
والكتاب هو الإنجيل لقوله تعالى : {فإن آذبوك فقد آذب رسل من قبلك جاءو بالبينات
والزبر والكتب المنير }. والكتاب ها هنا هو الإنجيل ، ولأنه تعالى لو أراد القرآن لم
يقل ذلك ؛ بل قال هذا ، ولقوله تعالى: {ءامنت بما أنزل الله من آتب }.
والجواب:أن تعظيم الحواريين لا نزاع فيه ، وأنهم من خواص عباد الله الذين اتبعوا
عيسى عليه السلام ، ولم يبدلوا ، وآانوا معتقدين لظهور نبينا محمد –صلى الله عليه
وسلم- في آخر الزمان ، على ما دلت عليه آتبهم و إنما آفر وخالف الحادثون بعدهم :
وأما تصديق القرآن لما بين يديه فمعناه : أن الكتب المتقدمة عند نزولها قبل تغييرها
وتخبيطها آانت حقا موافقة للقرآن ، والقرآن موافق لها ، وليس المراد الكتب الموجود
اليوم فإن لفظ التوراة والإنجيل إنما ينصرفان إلى المنزلين .
وأما قوله تعالى : { ذلك الكتب } ، وأنه المراد به الإنجيل : فمن الافتراء العجيب
والتخيل الغريب ، بل أجمع المسلمون قاطبة على أن المراد به القرآن ليس إلا ، وإذا
أخبر الناطق بذا اللفظ ، وهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم - أن المراد هذا الكتاب ،
آيف يليق أن يحمل على غيره ، فإن آل أحد مصدق فيما يدعيه في قول نفسه إنما
ينازع في تفسير قول غيره ، إن أمكنت منازعته ، وأما الإشارة بذلك التي اغتر بها هذا
السائل فاعلم أن للإشارة ثلاثة أحوال : ذا للقريب ، وذاك للمتوسط ، وذلك للبعيد ، لكن
البعد والقرب يكون تارة بالزمان وتارة با لمكان ، وتارة بالشرف ، وتارة بالاستحالة ،
ولذلك قالت زليخا في حق يوسف عليه السلام بالحضرة : وقد قطعن أيديهن من الدهش
بحسنه ، {فذلكن الذي لمتننى فيه }، إشارة لبعده عليه السلام في شرف الحسن ،
وآذلك القرآن الكريم لما عظ مت رتيته في الشرف أشير إليه بذلك ، وقد أشير إليه بذلك
لبعد مكانه ، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، وقيل : لبعد زمانه لأنه وعد به في الكتب
المنزلة قديما ، وأما قوله تعالى :{جاءو بالبينت والزبر والكتاب المنير *}.
فاعلم : أن اللام في لسان العرب تكون لاستغراق الج نس نحو حرم الله الخنزير والظلم ،
وللعهد نحو قولك لمن رآك أهنت رجلا : أآرمت الرجل بعد إهانته ، ولها محامل آثيرة
ليس هذا موضعها فتحمل في آل مكان على ما يليق بها ، فهي في قوله تعالى : { ذلك
الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } للعهد ، لأنه موعود به مذآور على ألسنة الأنبياء
عليهم السلام ، فصار معلوما فأشير إليه بلام العهد وهي في قوله تعالى : {بالبينت
والزبر والكتاب } للجنس ، إشارة إلى جميع الكتب المنزلة المتقدمة ، ولا يمكن أن يفهم
القرآن الكريم إلا من فهم لسان العرب فهما متقنا ، وقوله تعالى لنبيه عليه السلام ، فهو
أمر له بأن يقول : {ءامنت بما أنزل الله من آتاب } . فالمراد الكتب المنزلة لا المبدلة ،
وهذا لا يمتري فيه عاقل ، ونحن ننازعهم في أن ما بأيديهم منزلة ، بل هي مبدلة مغيرة
في غاية الوهن والضعف ، وسقم الحفظ ، والرواية والسند بحيث لا يوثق بشئ منها .
٧- ومنه ا:أنهم قالوا : القرآن الكريم أثنى على أهل الكتاب بقوله تعالى : {قل يأيها
الكافرون * لآ أعبد ما تعبدون * ولآ أنتم عابدون م ا~ أعبد } إلى قوله تعالى : {لكم
دينكم ولي دين } ، وبقوله تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن إلا
الذين ظلموا منهم } ، والظالم ون إنما هم اليهود عبدة العجل ، وقتلة الأنبياء ، وبقوله
تعالى :{وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }.ولم
يقل : آونوا به مسلمين ، وبقوله تعالى : {لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود
والذين أشرآوا ولتجدن أقربهم مودة ل لذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم
قسيسسن ورهبانا وأنهم لا يستكبرون }. فذآر حميد صفاتنا وجميل نياتنا ، ونفا عنا
الشرك بقوله : {والذين أشرآوا }، ومدحنا بقوله تعالى : {إن الذين ءامنوا والذين هادوا
والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون *}.
والجواب :أما قوله تعالى : {قل يأيها الكافرون }إلى آخرها ، فمعناها : أن قريشا
قالت له عليه السلام : اعبد آلهتنا عاما ، ونعبد إلهك عاما ، فأمره الله تعالى أن يقول لهم
ذلك ، فليس المراد النصارى ، و لو آان المراد النصارى لم ينتفعوا بذلك ، لأن قوله
تعالى : {لكم دينكم ولي دين *} معناه الموادعة والمتارآة ، فإن الله تعالى أول ما بعث
نبيه عليه السلام أمره أولا بالإرشاد بالبيان ليهتدي من قصده الاهتداء ، فلما قويت
شوآة الإسلام أمره بالقتال بقوله تعالى : {يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ
عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير *}.
قال العلماء : نسخت هذه الآية بيفا وعشرين آية منها : {لكم دينكم ولي دين *}
{لايضرنكم من ضل إذا اهتديتم } ، {لست عليهم بمسيطر *} وغير ذلك ، وليس في
المتارآة والاقتصار على الموعظة دليل على صحة الدين المتروك .
وقوله تعالى : {*ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } دليل على أنهم على
الباطل ، فإنهم لو آانوا على الحق ما احتجنا للجدال معهم ، فهي تدل على عكس ما
قالوا ، وقوله تعالى : { إلا الذين ظلموا منهم } المراد من طغى ، فإنا نعدل معه عن
الدليل والبرهان إلى السيف والسنان ، وأمره تعالى لنا بأن نؤمن بما أنزل على أهل
الكتاب صحيح ، ولكن أين ذلك المنزل ؟ والله إن وجود أعز من عنقاء مغرب !
وأما مدح النصارى بأنهم أقرب مودة ، وأنهم متواضعون فمسلم ، لكن هذا لا يمنع أن
يكونوا آفرة مخلدين في النار ، لأن السجايا الجليلة والآداب الكسبية تجمع مع الكفر
والإيمان ، آالأمانة والشجاعة ، والظرف واللطف ، وجودة العقل ، فليس فيه دليل على
صحة دينهم .
وأما نفي الشرك عنهم فالمراد الشرك بعبادة الأصنام ، لا الشرك بعبادة الولد ، واعتقاد
التثليث ، وسببه أنهم مع التثليث يقولون : الثلاثة واحد ، فأشاروا إلى التوحيد بزعمهم
بوجه من الوجوه ، ويقولون : نحن لا نعبد إلا الله تعالى ، لكن الله تعالى هو المسيح ،
ونعبد المسيح ، والمسيح هو الله ، تعالى الله عن قولهم ، فهذا وجه التوحيد من حيث
الجملة ، ثم يعكسون ذلك فيقولون : الله ثا لث ثلاثة ، وأما عبدة الأوثان فيصرحون بتعدد
الآلهة من آل وجه ، ولا يقول أحد منهم : إن الصنم هو الله تعالى ، وآانوا باسم الشرك
أولى من النصارى ، وآان النصارى باسم الكفر أولى ، حيث جعلوا الله تعالى بعض
مخلوقاته ، وعبدوا الله تعالى ، وذلك المخلوق ، فساروا عبدة الأوثان في عبادة غير الله
تعالى ، وزادوا بالاتحاد والصاحبة والأولاد ، فلا يفيدهم آون الله تعالى خصص آل
طائفة من الكفار باسم هو أولى بها في اللغة مدحا ولا تصويبا لما هم عليه .
٨- ومنه ا: أنهم قالوا : مدح الله قرباننا وتوعدنا إن أهملنا ما متعنا بقوله تعالى :
{إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء
قال اتقوا الله إن آنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأآل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد
صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين *} إلى قوله تعالى : { قال الله إني منزلها عليكم فمن
يكفر بعد منكم فإني أعذبه أحدا من العالمين*}.
فالمائدة هي القربان الذي يتقربون به في آل قداس .
والجواب: إن من العجائب أن يدعي النصارى أن المائدة التي نزلت من السماء هي
القربان الذي يتقربون به مع الذين يتقربون به من مصنوعات الأرض ، وأين المائدة من
القربان ؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان ، بل معنى الآية أن الله تعالى طرد عادته وأجرى
سنته أنه متى بعث للعباد أمرا قاهرا للإيمان لا يمكن العبد معه الشك ، فمن لم يؤمن به
عجل له العذاب لقوة ظهور الحجة ، آما أن قوم صالح لما أخرج الله تعالى لهم الناقة
من الحجر فلم يؤمنوا عجل لهم العذاب ، وآانت هذه المائدة جسما عليه خبز وسمك نزل
من السماء يقوت القليل من الخلق العظيم العدد فأمرهم أن يأآلوا ، ولا يدخروا ، فخالفوا
وادخروا ، فمسخهم الله تعالى ، ونزول مثل هذا من السماء آخروج الناقة من الصخرة
الصماء ، فأخبر الله تعالى أن من لم يؤمن بعد نز ول المائدة عجلت له العقوبة ، ولا
تعلق للمائدة بقربانهم البتة ؛ بل المائدة معجزة عظيمة خارقة ، والقربان أمر معتاد ليس
فيه شئ من الإعجاز البتة . فأين أحد البابين من الآخر لولا العمى والضلال .
٩- ومنها : أنهم قالوا : إن الله تعالى أخبر خبرا جازما أنا نؤمن بعيسى عليه
السلام بقوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته }. فكيف نتبع من
أخبر الله تعالى عنه أنه شاك في أمره بقوله تعالى :{وإنا أو إياآم لعلى هدى أو ضلال
مبين } وأمره في سورة الفاتحة أن يسأل الهداية إلى صراط مستقيم { صراط الذين
أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } والمنعم عليهم هم النصارى ،
والمغضوب عليهم اليهود ، والضالون عبدة الأصنام .
والجواب: أن النصارى لما لعبوا في آتابهم بالتحريف والتخليط صار ذلك لهم
سجية ، وأصيح الضلال والإضلال لهم طوية ، فسهل عليهم تحريف القرآن ، وتغيير
معانيه لأغراضهم الفاسدة ، والقرآن الكريم برئ من ذلك ، وآيف تخطر لهم هذه
التحكمات بغير دليل ، ولا برهان ؛ بل بمجرد الأوهام والوسواس ، وأما قوله تعالى
:{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته }ففيه تفسيران :
أحدهما: أن آل آافر إذا عاين الملائكة عند قيض روحه ساعة الموت ظهر له منهم
الإنكار عليه بسبب ما آان عليه من الكفر ، فيقطع حينئذ بفساد ما آان عليه ، ويؤمن
بالحق على ما هو عليه ، فإن الدار الآخرة لا يبقى فيها تشكك ولا ضلال ، بل يموت
الناس آلهم مؤمنين موحدين على قدم الصدق ومنهاج الحق ، وآذلك يوم القيامة بعد ا
لموت ، لكنه إيمان لا ينفع ولا يعتد به ، وإنما يقبل الإيمان من العبد حيث يكون متمكنا
من الكفر ، فإذا عدل عنه وآمن بالحق آان إيمانه من آسبه وسعيه ، فيؤجر عليه ، أما
إذا اضطر إليه ، فليس فيه أجر فما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بنبوة عيسى عليه
السلام وعبود يته لله تعالى قبل موته ، لكن قهرا لا ينفعه في الخلوص من النيران
وغضب الديان .
التفسير الثاني : أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان عند ظهور المهدي بعد
أن يفتح المسلمون القسطنطينية من الفرنج ،فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ولا يبقى
على الأرض إلا المسلمون ، ويستأصل اليهود بالقتل ويصرح بأنه عبد الله ونبيه ،
فتضطر النصارى إلى تصديقه حينئذ لإخباره لهم بذلك ، وعلى التفسيرين ليس فيه دلالة
على أن النصارى الآن على خير .
وأما قوله تعالى :{ وإنا أو إياآم لعلى هدى أو في ضلال مبين } فهو من محاسن
القرآن الكريم ، لأنه من تلطف الخطاب وحسن الإرشاد ، فإنك إذا قلت لغيرك أنت آافر
فآمن ، ربما أدرآته الأنفة فاشتد إعراضه عن الحق ، فإذا قلت له : أحدنا آافر ينبغي
أن يسعى في خلاص نفسه من عذاب الله تعالى ، فهلم بنا نبحث عن الكافر منا
فنخلصه ، فإن ذلك أوفر لداعيته في الرجوع إلى الحق و الفحص عن الصواب ، فإذا
نظر فوجد نفسه هو الكافر فر من الكفر من غير منافرة منك عنده ، ويفرح بالسلامة ،
ويسر منك بالنصيحة ، هكذا هذه الآية سهلت الخطاب على الكفار ليكون ذلك أقرب
لهدايتهم ، ومنه قول صاحب فرعون المؤمن لموسى عليه السلام : { يا قوم لكم الملك
اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا } إلى قوله : { وإن يك
آاذبا فعليه آذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدآم } فخصهم أولا بالملك
والظهور لتنبسط نفوسهم مع علمه بأنه وبال عليهم ، وسبب طغيانهم ، ولم يجزم في
ظاهر اللفظ بصدق موسى عليه السلام مع قطع ه بصدقه ، بل جعله معلقا على شرط ،
لئلا ينفرهم فيحتجبوا عن الصواب ، فكل من صح قصده في هداية الخلق سلك معهم
ما هو أقرب لهدايتهم ، وآذلك قوله تعالى لموسى وهارون في حق فرعون :{ فقولا
له قولا لينا لعله يتذآر أو يخشى } وقوله لمحمد صلوات الله عليهم أجمعين :{ ولو
آنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك }.وقوله :{ *ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي
هي أحسن } فهذا آله من محاسن الخطاب لا من موجبات الشك والارتياب ، وأما أمره
تعالى لمحمد عليه السلام ولأمته بالدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فلا يدل على
عدم حصول الهداية في الحال ، لأن القاعدة اللغوية أن الأمر والنهي والدعاء والوعد
والوعيد والشرط وجزاءه إنما يتعلق بالمستقبل من الزمان دون الماضي والحاضر ، فلا
يطلب إلا المستقبل ، لأن ما عداه قد تعين وقوعه ، أو عدم وقوعه ، فلا معنى لطلبه
والإنسان باعتبار المستقبل لا يدري ماذا ق ضي عليه ، فيسأل الهداية في المستقبل ليأمن
من سوء الخاتمة ، آما أن النصراني إذا قال : اللهم أمتني على ديني ، لا يدل على أنه
غير نصراني وقت الدعاء ، ولا أنه غير مصمم على صحة دينه ، وآذلك سائر الأدعية
، وأجمع المسلمون والمفسرون على أن المغضوب عليهم اليهود ، و أن الضالين
النصارى ، فتبديل ذلك مصادمة ومكابرة ومغالطة وتحريف وتبديل ، فلا يسمع من
مدعيه .
١٠ - ومنه ا: أنهم قالوا : ليس من عدل الله تعالى أن يطالبنا باتباع رسول لم يرسله
إلينا ، ولا وقفنا على آتابه بلساننا .
والجواب : أنه عليه السلام لو لم يرسل إليهم ف ليت شعري من آتب إلى قيصر
هرقل ملك الروم ، وإلى المقوقس أمير القبط يدعوهم إلى الإسلام ؟
وليس يصح في الأذهان شئ
إذا احتاج النهار إلى دليل
١١ - ومنها : أنهم قالوا : إن قالوا لم أطلقتم لفظ الابن والزوج الأقانيم ، مع أن
ذلك يوهم أنكم تعدون تعدد الآلهة ، وأن الآلهة ثلاثة أشخاص مرآبة ، وأنكم تعتقدون
ببنوة المباضعة ، قلنا للمسلمين : هذا آإطلاق المتشابه عندآم من لفظ اليد ، والعين ،
ونحوها ، فإنه يوهم التجسيم ، وأنتم لا تعتقدونه .
قلنا: إنما يطلق المسلمون المتشابه بعد ثبوته نقلا متواترا نقطع به عن الله تعالى أنه
أمر بتلاوته امتحانا لعباده ليضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وليعظم ثواب المهتدين
حيث حصل الهداية بعد التعب في وجوه النظر ، ويعظم عذاب الضالين حيث قطعوا لا
في موضع القطع ، ولم ينقلوا ذلك عن امرأة آما اتفق ذلك في الإنجيل ؛ بل ما اقتصر
المسلمون على الجمع القليل ، بل ما اعتمدوا على العدد الذي يستحيل عليهم الكذب ،
فلما تحققوا أن الله أمرهم بذلك نقلوه ، وأما النصارى فأطلقوا بعض ذلك من قبل أنفسهم
، آالأقانيم والجوهر ، وبعضها نقلوه لا تقوم به حجة في أقل الأحكام ، فضلا عن أحوال
الربوبية ، فهم عصاة الله تعالى حيث أطلقوا عليه ما لم يثبت عندهم بالنقل ، بل لو
طولبوا بالرواية لإنجيلهم لعجزوا عن الرواية ، فضلا عن النقل القطعي ، فلا تجد أحدا
له رواية في الإنجيل يرويه واحد عن واحد إلى عيسى عليه السلام ، وأقل الكتب عند
المسلمين من الارتي اب وغيرها يروونها عن قائلها ، فتأمل الفرق بين الاثنين ، والبون
الذي بين الدينين هؤلاء ، المسلمون ضبطوا آل شئ ، والنصارى أهملوا آل شئ ، ومع
ذلك يعتقدون أنهم على شئ .
١٢ - ومنه ا: أنهم قالوا : المسلمون ينكرون علينا إطلاق الجوهر على الله تعالى ،
وليس بمنكر ، لأن الموجودات منحصرة في الجواهر والأعراض ، لأن الموجود إما
غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، وهو الجوهر ، أو مفتقر في وجوده إلى غيره وهو
العرض ، ولا واسطة بين قولنا : مفتقر في وجوده ، وغير مفتقر ، ويستحيل عليه تعالى
أن يكون عرضا فيتعين أن يمون جوهرا لضرورة الح صرفيهما ، وأما قول المسلمين :
إن الجوهر هو الذي يقبل العرض فيشغل الحيز ، فيستحيل إطلاقه على الله تعالى ،
فليس آذلك ، بل الذي يشغل الحيز ويقبل العرض هو الجوهر الكثيف ، أما اللطيف
آالضوء والنفس والعقل فلا .
قلنا:هذا آلام من لا يعلم الجوهر ، ولا يعرف العرض ، ولا يضبط علما من العلوم
آأنه نصراني ، فإن هذا خصيصتهم ، أما ما يفتقر في وجوده لغيره ، وما لا يفتقر فهو
الواجب الوجود لذاته ، والممكن الوجود لذاته ، فهذا تفسير الواجب والممكن ، لا تفسير
الجوهر والعرض ، فأين أحد البابين من الآخر ، بل الجوهر والعرض آلاهما م ن أقسام
ما يفتقر في وجوده إلى غيره ، فنتبرع للنصارى الآن بتفسير هذه الحقائق ، فنقول :
الجوهر هو المتحيز لذاته الذي لا يقبل القسمة ، فقولنا لذاته : احتراز من الجسم ، فإنه
يقبل القسمة ، والجسم المتحيز لذاته الذي يقبل القسمة ، وقد ظهرت فائدة هذه القيود مما
تقدم ، والعرض هو المعنى المفتقر إلى متحيز يقوم به ، لا أنه يفتقر إليه في وجوده ،
بل وجود العرض و غيره من الله تعالى ، إذا تقرر هذا ظهر خطأهم في إطلاقهم لفظ
الجوهر على الله تعالى ، وظهر بطلان تفسيرهم للجوهر والعرض ، بل على تفسيرهم
للجوهر يلزم أن لا يكون القا بل للعرض والشاغل للحيز جوهرا ، لأن وجوده من الله
تعالى خالق المتحيزات وغيرها ، ومن العجيب قوله : إن الجوهر اللطيف لا يشغل
حيزا ولا يقبل عرضا ، ثم مثله بالنفس والعقل والضوء !! أما النفس فإنها متحيزة ،
وهي تقوم بها الأعراض ، لأنها يقوم بها العلوم والظنون والا عتقادات ، والآلام ،
واللذات وغير ذلك ، وآلها أعراض نفسانية ، لكنه لا يعرف حقيقة العرض ، فلذلك نفى
الأعراض عن النفس ، وآذلك العقل يقوم به الفكر والعبر والمعارف وغيرها ، وهي
أعراض ، وأما الضوء فعرض يقوم بجواهر ، والهواء ليس من الجواهر في شئ وهو
يعتقد أنه جوه ر فمثل به ، فحديث النصارى آله عجب ، حتى ولو وجد عندهم صواب
آان عجبا .
١٣ - ومنها : أنهم قالوا : الله له عدل وفضل ، وهو سبحانه وتعالى يتصرف بهما
، فأرسل موسى عليه السلام بشريعة العدل لما فيه ا من التشديد ، فلما استقرت في
نفوسهم وقد بقي الكمال الذي لا يصنعه إلا أآمل الكملاء ، وهو الله تعالى ، ولما آان
جوادا تعين أن يجود بأفضل الموجودات ، وليس في الموجودات أجود من آلمته يعني
نطقه ، فجاد بها واتحدت بأفضل المحسوسات ، وهو الإنسان ، لتظهر قدرته ، فحصل
غاية الكمال ، ولم يبق بعد الكمال إلا النقص .
قلنا: أما شريع ة موسى عليه السلام ، فكانت عدلا وفضلا وقل أن يقع في العالم عدل
مجرد ، وإنما وقع ذلك لأهل الجنة .
وتقرير هذا الباب : أن آل جود وإحسان فهو فضل من الله تعالى ، وهو جود لا يجب
عليه عري عن الخير والإحسان البتة فهو العدل المحض ، لأن الملك ملكه ، والتصرف
في الملك المملوك آيف آان عدل ليس بظلم ، وإنما يكون الظلم في مملوك الغير ، فإن
وقع الخير المحض فهو التفضيل المحض ، وهذا هو شأن أهل الجنة ، إذا تقرر هذا ،
فشريعة موسى عليه السلام آان فيها من الإحسان أنواع آثيرة ، فتلط آلها فضل آتحريم
القتل والغصب والزنا والقذف والمس كر من الخمور المغيبة للعقول ، وإنما أباح فيها
اليسير الذي لا يصل إلى حد السكر ، وآإباحة الفواآه واللحوم والزواج وغير ذلك ،
وهذه آلها أنواع من الفضل ، ثم إن عيسى عليه السلام جاء مقررا لها وعاملا بمقتضاها
، ومستعملا لأحكامها ، ولم يزد شيئا من الأحكام ، إنما زاد المواعظ والأمر بالتواضع
والرقة والرأفة ، فلم يأت عيسى عليه السلام بشريعة أخرى حتى يقال : إنها الفضل هي
شريعتنا ، لأنها هي الشريعة المستقلة التي ليست تابعة لغيرها ، ولا مقلدة لسواها ،
وهذا هو اللائق لمنصب الكمال أن يكون متبوعا لا تابعا ، فهذة الحجة عليه لا له ، ثم
قوله : لا يصنع الأآمل غلا هو سبحانه ، فهو باطل لأنه لا حجر عليه سبحانه في ملكه
، فيأمر بعض خلقه بوضع الأآمل ، ويرسل للناس بأوامر وشرائع هي في غاية جلب
المصالح . ودرء المفاسد ، آما هي شريعتنا المعظمة ، ثم قوله : الله ت