بيان جهود علماء السلف في حفظ السُّنة
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،،،،،،،، وبعد
لما كانت علوم الحديث المختلفة هى حصيلة جهود علماء السلف في حفظ السنة، فإنه يحسن بطالب العلم أن يقف على هذه الجهود بإيجاز، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
كان المسلمون يتناقلون حديث النبي صلى الله عليه وسلم شفاهة ودون نظر في إسناده، لكراهتهم لكتابة الحديث ولشيوع الأمانة في الرواة، وذلك في النصف الأول من القرن الهجري الأول. ومع أواخر القرن الأول حدث تطوران في هذا الشأن:
أحدهما: شيــوع كتابــة الحــديث، مع الاتفــاق على جــواز كتابتــه، ومع خشيــة النسـيان، وقد أَمْر عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بجمع الحديث وكتابته أثناء مدة خلافته (99 ــ 101 هـ). وروى البخاري قال: وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم (انظر ماكان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذَهَاب العلماء) الحديث، وكان أبو بكر بن حزم عامل عمر على المدينة، وقال ابن حجر ــ في شرحه ــ وقد روى أبو نعيم هذه القصة في تاريخ أصبهان بلفظ (كتب عمر بن عبدالعزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه) (فتح الباري) 1/194 ــ 195. وأخذ العلماء في كتابة الحديث، وكان كل منهم يكتب محفوظاته أو ينتقي منها مايطمئن إليه فيكتبه بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفت طرائقهم في الكتابة فمنهم من جمع أحاديث كل صحابي على حدة وسميت هذه بالمسانيد (جمع مُسنَد)، ومنهم من جمع أحاديث كل باب من أبواب العلم والفقه على حدة وسُميت هذه بالموطَّآت والمصنفات والجوامع والسنن ومن العلماء من كتب في صنوف العلم الأخرى كالتفسير والفقه وساق الأحاديث فيها بأسانيده الخاصة. وكل هذه تسمى (بكتب السنة الأصلية) وهى الكتب التي يذكر مؤلفوها الأحاديث بأسانيدهم الخاصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كانت مُصَنفةً في الحديث خاصة أو في غيره من العلوم. وظلت هذه طريقة العلماء في كتابة الحديث إلى قرب منتصف القرن السادس الهجري، وهنا طالت الأسانيد وكثر الرواة فاكتفي كثير من العلماء بعد ذلك بذكر الحديث في مصنفاتهم مع عَزْوِه لأحد العلماء الثقات السابقين الذين رووه، كــأن يذكـر الحديث ويقول رواه البخاري، وسُميــت كتــب المصــنفين الذين يعـزون الأحاديث إلى غيرهم (بكتب السنة التابعة)، وكان أصحابها يحرصون على أن تكون لهم رواية متصلة الإسناد لكتب السنة الأصليــة، ثم اكتفي العلمــاء بعد ذلك باشتهــار هذه الكتــب وانتشارها بما أوجد الثقة بها
وسُمي العلم المختص برواية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتدوينها علم رواية الحديث، وكُتُبه كما ذكرنا أعلاه إما مروية بأسانيد مؤلفيها (وهى كتب السنة الأصلية) وإما مَعْزُوَّة إلى هذه (وهي كتب السنة التابعة).
التطور الثاني الذي حدث مع نهاية القرن الأول الهجري هو السؤال عن إسناد الأحاديث والبحث في أحوال رواتها (رجال السند)، وذلك مع ظهور الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ووضع الأحاديث المكذوبة.
روى مسلم في مقدمة صحيحه عن محمد بن سيرين قال (لم يكونــوا يسألــون عن الإســناد فلما وقعت الفتنة قالوا سَمُّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) أهـ. ومحمد بن سيرين توفي عام 110هـ، وكلامه هذا يعني أن السؤال عن الإسناد والبحث في أحــوال رجاله متقدم عن هذا التاريخ، ويؤكد هذا مارواه مسلم في مقدمة صحيحه أيضا عن مجاهد قال (جاء بُشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يُحدِّث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لايأذن لحديثه ولاينظر إليه، فقال: ياابن عباس مالي لاأراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارُنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبَ والذلول لم نأخذ من الناس إلا مانعرف) أهـ. ومعنى (لايأذن) أي لا يسمع، والمراد بقوله (إنا كنا مرة) أي وقتاً ويعني به قبل ظهور الكذب. وابن عباس رضي الله عنهما توفي عام 68هـ، وهذا يبين أن البحث في الإسناد بدأ في النصف الثاني من القرن الأول الهجري.
وأصبح الإسنــاد من خصائص هذه الأمة إلهاماً من الله تعالى حفظ به على المسلمين دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وليست هذه الخصيصة لأمة من الأمم السابقة ولهذا دخل التحريف والتبديل على كتبهم السماوية وأخبار أنبيائهم عليهم السلام. قال عبدالله بن المبارك (181هـ): (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَنْ شاء ماشاء) رواه مسلم في مقدمة صحيحه. وقال أبو حاتم الرازي 277هـ (لم يكن في أمةٍ من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة) رواه الخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) صـ 43. وقال الحاكم النيسابوري 405 هـ ــ صاحب المستدرك ومعرفة علوم الحديث ــ (لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدُرس منار الإسلام ولتمكن أهل الالحادوالمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد).
ولم يقتصــر البحــث في أحوال الرواة (رجال الأسانيد) على كشف الكذب والوضع فقط، وإنما اتفق العلماء على وضع قوانين لضبط الرواية لتمييز مايُقبل من الحديث ومايُرد، فقسّموا الحديث إلى صحيح مقبول وضعيف مردود. وقالوا إن الحديث الصحيح (هو مااتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا عِلّة) وهذا التعريف يشتمل على خمسة شروط إذا انخرم منها شرط صار الحديث ضعيفاً، إلى أن جاء أبو عيسى الترمذي (279 هـ) وأضاف قسماً ثالثا وهو الحديث الحسن وتعريفه كالصحيح إلا أن رواته أو بعضهم أخف ضبطاً من رواه الصحيح. وأصبح البحث في أحوال الرواة بهذا يتضمن البحث في ثلاثة أشياء.
1 ــ اتصال السند: بمعرفة تواريخ الرواة (مواليدهم ووفياتهم) لمعرفة إمكان لقاء بعضهم ببعض من عدمه، والبحث عن شيوخ كل راوٍ وتلاميذه، والبحث عن رحلته إلي الأمصار المختلفة لسماع الحديث وتاريخ رحلته. وسُمي العلم المختص بذلك (بعلم تاريخ الرواة)، وإذا أطلق مصطلح (التاريخ) عند الأقدمين فالمقصود به غالبا تراجم الرواة والعلماء لا تأريخ الأحداث التاريخية، وهذا (كتاريخ بغداد) للخطيب البغــدادي، و (تاريـخ أصبهــان) لأبي نعيم، و(تـاريخ دمشــق) لابن عســاكــر، وقـبل هــذه كلهــا (التاريخ الكبير) للبخاري صاحب الصحيح.
2 و 3 ــ عدالة الرواة وضبطهم: فقد يكون الراوي صالحا في دينه (عدلٌُ) إلا أنه سيئ الحفظ (غير ضابط)، وقد يكون بعكــس ذلك، وكلاهما لايُقبــل حديثــه على تفصيــل ليس هذا محلــه، قال أبو الزناد (أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، مايؤخذ عنهم الحديث، يُقال ليس من أهله) رواه مسلم في مقدمة صحيحه. وسُمي العلم المختص بتقييم الرواة والحكم عليهم (بعلم الجرح والتعديل).
وسُمــي العلمــان معـا ــ (تاريــخ الــرواة) و (الجــرح والتعـديل) ــ بعلم الرجـال (أي رجـال الأسانيـد). وبتدوين هذه العلوم تم حفظ السنة وتمييز مايقبل من الحديث وما يُرد.
روى الخطيب البغدادي عن محمد بن حاتم بن المظفر قال (إن الله أكرم هذه الأمة وشرّفها وفضّلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمهم وحديثهم إسناد، وإنما هى صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين مانزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم، وتمييز بين ماألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوا عن غير الثقات، وهذه الأمة إنما تَنُصُّ الحديث من الثقة المعروف في زمانه، المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، الأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها وأكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدّوه عداً، فهذا من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة، نستوزع الله شكر هذه النعمة) (شرف أصحاب الحديث) صـ 40.
وقد تخصص في هذه العلوم المعنية بحفظ السنة وضبطها علماء جهابذه ألهمهم الله ذلك، وحفظ بهم على هذه الأمة دينها، (وربك يخلق مايشاء ويختار)، ومنهم ــ حسب ترتيب وفياتهم:
الأوزاعــي (157هـ)، وشُعبة بن الحجــاج (160هـ)، وسفيان الثـوري (161هـ)، ومـالـك بن أنس (179هـ)، ووكيع بن الجراح (197هـ)، وسفيان بن عيينة (198هـ)، وعبدالرحمن بن مهدي (198هـ)، ويحيى بن سعيد القطان (198هـ).
ثــم مــن بعدهـم: يحـيى بن معــين (233هـ)، وعلــي بن المــدينــي (234هـ)، وإسحــاق بن راهــويــة (238هـ)، وأحمد بن حنبل (241 هـ).
ثم من بعدهم: أصحـاب الكتب الستة: البخاري (256 هـ)، ومسلم (261 هـ)، وابن ماجة (273 هـ)، وأبو داود (275 هـ)، والترمذي (279 هـ)، والنسائي (303 هـ).
ثـم مـن بعدهــم: عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي (327 هـ) صاحب كتاب (الجـرح والتعـديل) وقد أخذ ابن أبي حاتم كتاب (التاريخ الكبير) للبخاري وكتب على تراجمه ماقال أبوه أبو حاتم الرازي (محمد بن إدريس الحنظلي) 277هـ، وماقال أبو زرعة الرازي (عبيد الله بن عبدالكريم المخزومي) 264هـ في جرح الرواة وتعديلهم ثم طاف ابن أبي حاتم البلدان ليجمع ماقيل في الرواة خاصة من عند تلاميذ أحمد بن حنبل، وسمي كتابه (بالجرح والتعديل) وهو مرجع أساسي لكل من كتب بعده في هذا العلم.
ثم من بعدهم: الدار قطني (385 هـ)، والخطيب البغدادي (463 هـ)، وغيرهم.
فهــؤلاء العلمـاء الجهابذة وأقرانهم عليهم مدار جــرح الــرواة وتعديلهم حتى نهاية القرن الثالث الهجري حين تم تدوين معظم كتب السنة المشهورة وتم حصر رواتها. وصار مَنْ يتكلم في الرجال بعد ذلك ــ كالحافظ المِزي والذهبي وابن حجر وغيرهم ــ إنما هم ناقلون لكلام هؤلاء العلماء الجهابذة المتقدمين، فصار الآخر عالة على الأول، وفوق كل ذي علم ٍ عليم.
أما المصطلحات والقواعد التي وضعها هؤلاء العلماء الجهابذة لضبط الرواية وللحكم على الرجال فكانت متفرقة أوتتناقل شفاهة إلى أن دوّنها القاضي الرامهرمزي (360 هـ) في كتابه (المحدِّث الفاصل بين الراوي والواعي)، وكتب أبو عبدالله الحاكم صاحب المستدرك (405 هـ) كتابه (معرفة علوم الحديث)، ثم جمع الخطيب البغدادي (463 هـ) ماكتبه مَن قبله في كتابيه (الكفاية) و(الجامع) ولم يترك فناً من فنون الحديث إلا وكتب فيه وصار مَنْ بعده عيالاً على كتبه، حتى جاء أبو عمرو بن الصلاح (643هـ) وكتب كتابه في علوم الحديث المعروف (بمقدمة ابن الصلاح) معتمداً على كتب الخطيب، ووقعت هذه المقدمة من العلماء موقع القبول فعكفوا عليها بالاختصار والشرح والاستدراك والنظم، وصارت مقدمة ابن الصلاح الأساس لكل من كتب بعده في علوم الحديث وإلى يومنا هذا. وسُمّي العلم المختص بهذه القواعد والمصطلحات (بعلم مصطلح الحديث) أو (علم أصول الحديث).
وتسمى مجموع العلوم المختصة بضبط الرواية (بعلم الحديث دراية) والذي يشتمل على علم المصطلح وعلم الرجال بشقيه (تاريخ الرواة والجرح والتعديل).
وهــذه العلـوم جميعــها (علــم الحــديث روايــة بأنواعه، وعلم الحديث دراية بأنواعه) هى حصيلة جهود السلف في حفظ السنة تدويناً وروايةً وضبطاً.
منقول بتصرف